إعادة اكتشاف الحرب الباردة - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الأربعاء 25 ديسمبر 2024 2:54 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إعادة اكتشاف الحرب الباردة

نشر فى : الإثنين 10 يناير 2022 - 10:00 م | آخر تحديث : الإثنين 10 يناير 2022 - 10:00 م

 

لم تألف البشرية اصطلاح «الحرب الباردة»، إلا فى إبريل من عام 1947. فحينئذ، قام بصكه، برنارد باروخ، المليونير الأمريكى الشهير، والمستشار لعدة رؤساء، بداية من وودرو ويلسون، حتى هارى ترومان، لوصف العلاقات الآخذة فى الجفاء والتنافس بين حليفى الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة وأوربا الغربية من جانب، والاتحاد السوفيتى من جانب آخر. ففى سياق خطبة ألقاها أمام مجلس نواب ولاية كارولينا الجنوبية، ‏وصف باروخ، على الملأ، ودونما مواربة، وضع العلاقات الأمريكية ــ السوفيتية عقب الحرب الكونية الثانية، بالقول: «دعونا لا نخدع أنفسنا.. نحن نعيش اليوم فى خضم حرب باردة»‏. ولم تمض أشهر قلائل، حتى تلقف المحرر السياسى الأمريكى، والتر ليبمان، ذلك التوصيف، وجعل منه عنوانا لمؤلف مثير. الأمر الذى أعطى زخما هائلا للمفهوم، الذى طفقت تتداوله الأوساط السياسية والدوائر الإعلامية حول العالم.‏
من هذا المنطلق، توافقت غالبية الأدبيات السياسية على اعتبار أفول الحرب الكونية الثانية، إيذانا ببزوغ الحرب الباردة. فقبل أن تسكت المدافع، أخذت فجوة الثقة بين موسكو وحلفائها الغربيين فى الاتساع، إلى حد انعكس سلبا على نهج إدارتهما لحقبة ما بعد الحرب. ومن ثم، اندلعت بينهما الخلافات حول قضايا وملفات شتى، كان من أبرزها: حصار برلين، وإعلان واشنطن مبدأ ترومان عام 1947، ثم مشروع مارشال، وإنشاء الحلف الأطلسى عام 1948، واللذين كانا بمثابة ذراعين اقتصادى وعسكرى لمبدأ ترومان. ومن بعد ذلك توالت حروب الوكالة بين واشنطن وموسكو فى مختلف أصقاع المعمورة.
بيد أن نظرة تأملية متعمقة لصيرورة الحرب الباردة، تتيح للمراقب التماس إرهاصاتها، ضمن وطيس الحرب العالمية الساخنة. فعلى خلفية تنامى الارتياب المبكر والمتبادل بين موسكو والغرب، جراء التضخم المقلق فى قوتيهما الشاملة، تعمدت واشنطن إذكاء المواجهات الطاحنة بين روسيا وألمانيا خلال الحرب، طمعا فى كسر شوكتيهما المزعجة للأنجلوساكسونيين. ولم يحل تضامن الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفيتى، فى الحرب ضد عدو مشترك، دون مباشرة كليهما للأنشطة التجسسية ضد بعضهما البعض. ففى حين دشنت واشنطن، فى فبراير 1943، استراتيجيتها للتجسس على السوفييت، والمعروفة باسم «فينونا»،أطلقت موسكو، بالتزامن، مهامها التجسسية على «برنامج منهاتن»، لتصنيع الأسلحة النووية، الذى تقوده واشنطن، بالتعاون مع بريطانيا وكندا. وفى أثناء شهادته لاحقا لدى مكتب الحرب بلندن عام 1950، أقر، كلاوس فوكس، وهو أحد العلماء الألمان العاملين فى البرنامج، بنقل أسرار نووية حساسة، إلى السوفييت عام 1943. ولم يكن، فوكس، وحده الذى اضطلع بهذا الدور، إذ شاركه علماء أمريكيون آخرون مثل: ثيودور هول، وسافيل ساكس، وجوليوس وإيثل روزنبرغ.
فى غضون ذلك، استشعر، ستالين، تناميا تدريجيا مبطنا فى النزعة الأنجلوساكسونية العدائية حيال الاتحاد السوفياتى. حيث رصد اتصالات سرية للتفاهم بين الغرب وألمانيا النازية بمنأى عن موسكو، كما وصلته معلومات حول حديث بريطانى ــ أمريكى، بشأن التنسيق مع النازى لتوجيه ضربة قاصمة للاتحاد السوفياتى. الأمر الذى غذى الهواجس الستالينية لجهة استغلال الحلفاء الوظيفى للآلة العسكرية السوفياتية بغية دحر اليابانيين على الجبهة الشرقية، وكبح جماح هتلر فى جبهة الغرب. واعتبر ستالين استخدام الولايات المتحدة السلاح النووى، للمرة الأولى فى التاريخ، ضد اليابان فى أغسطس 1945، بغير مبرر استراتيجى، إذ كانت طوكيو على وشك الاستسلام، استعراضا مغرضا للقوة القاهرة،المستندة إلى السلاح الفتاك الجديد، ورسالة تحذير لموسكو من مآل مشابه، إذا تعنتت مع الغرب فى تسويات ما بعد الحرب. الأمر الذى أجج مخاوف السوفييت من نوايا الأمريكيين بشأن الهيمنة على عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. كما دفع موسكو للعمل بدأب من أجل امتلاك السلاح النووى، حتى كسر الاحتكار الأمريكى له عام 1949. لكن ذلك، لم يمنع الدبلوماسى الأمريكى، جورج كينان، عام 1946، من التنبؤ بأن تفضى الأزمات الهيكلية والمشكلات البنيوية داخل الاتحاد السوفياتى، إلى انهياره، عاجلا أم آجلا.
لطالما شعر السوفييت بغبن استراتيجى من قبل الشركاء الأنجلوساكسونيين نهاية الحرب، انعكس جليا فى مفاوضات تقاسم الغنائم عقب هزيمة المحور. فما إن التأم مؤتمر موسكو الرابع، بمشاركة ستالين وتشيرشل، لتوقيع اتفاقية تقاسم مناطق النفوذ بين بلديهما فى البلقان، والتى على إثرها بسط الاتحاد السوفياتى هيمنته على أوربا الشرقية، حتى تعاظم الانزعاج الأمريكى. وأثناء المؤتمرات التى عقدت بعدما وضعت الحرب أوزارها، بغرض وضع ترتيبات المرحلة التالية، تفجرت الخلافات بين الحلفاء. فإبان مؤتمر يالطا لتقسيم ألمانيا فى فبراير 1945، برزت تباينات بين الاتحاد السوفياتى وباقى الحلفاء الغربيين، حول طبيعة نظام الحكم المرتقب فى بولندا. وعقب مؤتمر بوتسدام، فى يوليو 1945، رفض الحلفاء الاعتراف بشرعية الحكومات التى أقامها الاتحاد السوفياتى فى كل من رومانيا وبلغاريا، أو الحدود الغربية التى رسمها مع بولندا. بدورها، امتنعت موسكو عن السماح للحلفاء بمراقبة الانتخابات بدول أوربا الشرقية، التى ساهمت الجيوش السوفياتية فى تحريرها من النازية. كذلك، أخفق الحلفاء فى التفاهم حول غنائم الحرب من تركة ألمانيا واليابان. وفى نهاية المطاف، دب الصراع على برلين‏، ‏فقسمت بين شرقية للسوفييت، ‏وغربية للأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين‏.‏ وازدادت حدة التأزم مع تكثيف السوفييت مساعيهم لإخراج القوات الغربية منها، توطئة لضمها إلى ممتلكاتهم‏.‏
كان من بين أهداف مشروع مارشال، أو برنامج التعافى الأوروبى، الذى استمر لمدة أربع سنوات (١٩٤٧ــ١٩٥١)، وتكلف زهاء ١٧ مليار دولار، بناء حواجز لايقاف المد الشيوعى فى أوروبا الغربية. وقد حاولت واشنطن فى البداية دمج دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتى فى المشروع، لكن موسكو رفضت بشدة، وضغطت على حلفائها بشرق أوربا لمقاطعته. فقد كانت تعتبره مطية للتدخل الأمريكى الإمبريالى فى القارة الأوربية، كونه سيقسم العالم إلى فسطاطين: أحدهما ديمقراطى اشتراكى تتزعمه موسكو، والآخر إمبريالى استعمارى غربى، تقوده واشنطن. وقدم وزير الخارجية السوفايتى، وقتها، فيتشسلاف مولتوف،خطة تنموية بديلة، لدول الكتلة الشرقية، وإن لم تكن بنفس قوة وسخاء مشروع مارشال.
بموازاة سباق التسلح الاستراتيجى، ‏انبرت واشنطن فى محاصرة واستئصال الشيوعية، وحشد الحلفاء حول العالم‏.‏ فى المقابل،‏ شرعت موسكو فى تأطير ودعم الأحزاب والهيئات الشيوعية، فى كل مكان، لإقامة أنظمة اشتراكية تقاوم الأنظمة الرأسمالية. وبعدما تبين له نجاح الاتحاد السوفياتى فى التغلغل الأيديولوجى فى ربوع القارة العجوز، أطلق رئيس الوزراء البريطانى تشرشل، فى برقيته للرئيس الأمريكى ترومان، يوم12مايو 1945، مصطلح «الستار الحديدى»، ليعبر عن تقسيم العالم إلى معسكرين: غربى بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية،وشرقى بقيادة الاتحاد السوفياتى. وعلى إثر ذلك،اندلعت عدة أزمات دولية،أبرزها:حصار برلين ‏1948ــ1949‏، والحرب الكورية ‏1950ــ 1953‏، وحرب السويس 1956، وأزمة برلين عام‏ 1961‏، وأزمة الصواريخ الكوبية‏ 1962‏، وحرب فيتنام‏ 1959ــ1975‏، والغزو السوفيتى لأفغانستان 1979.
قبل ثلاثة عقود خلت، وضعت الحرب الباردة أوزارها، أو هكذا تراءى للعالمين. وإبان انهيار الاتحاد السوفياتى عام1991، انشغل الأمريكيون بمصير منظوماته التسليحية الاستراتيجية ذات الثلاثين ألف رأس نووى، ومعرفة الجهة المنوط بها التحكم فيها،عقب انهيار نظام القيادة والسيطرة المركزية السوفياتى. فى هذه الأثناء، ظل تعاظم فجوة الثقة كفيلا بإبقاء الباب مواربا أمام انبعاث الحرب الباردة. فخلال حديثه إلى كبار المسئولين العسكريين، يوم21 ديسمبر الفائت، قال بوتين: «إن الغرب قيَّم نتيجة الحرب الباردة بشكل خاطئ، حيث أفضى اعتقاد واشنطن الزائف بالانتصار فيها، إلى انتهاج الأمريكيين سياسيات مضللة، على شاكلة: توسيع الحلف الأطلسى، والتخلى عن معاهدات الدفاع الصاروخى، مما فاقم التوترات والأزمات العالمية المتصاعدة». ولم يتورع بوتين، الذى يعتبر انهيار الاتحاد السوفياتى أضخم كارثة جيوسياسية ألمت بالعالم، عن التهديد بالرد المناسب على أى اعتداء يطال المصالح الروسية.
أما اليوم، فيتلبد الأفق الدولى بغيوم حرب باردة ثلاثية بين واشنطن، وكل من موسكو وبكين. حيث يتفانى الأمريكيون فى عرقلة الصعود المقلق للصين وروسيا، والحيلولة دون حدوث تحالف استراتيجى بينهما. كما يبتغى بايدن استعادة اللحمة المهترئة للأمة الأمريكية، مع وقف تراجع القطب الأوحد، وتأبيد هيمنته الأحادية المطلقة على النظام الدولى.
بلا هوادة، تشتد بين ثلاثتهم، وطأة الحروب التجارية والسيبرانية، وتحتدم نزاعات الطاقة، ويتفاقم سباق التسلح النووى، والصاروخى، والفضائى. فى الأثناء، تتخذ واشنطن من الوضع الملتهب فى تايوان وأوكرانيا، ذريعتين لاستدراج بكين وموسكو لمواجهات استنزافية. ومن ثم، أكد الرئيس بايدن التزام بلاده مواصلة تسليح تايوان وأوكرانيا، والدفاع عنهما، حالة تعرضهما لأى عدوان من قبل بكين وموسكو. من جانبها، هددت بكين الأمريكيين بتوخى الحذر حيال تايوان، ملوحة باستخدام القوة لاستعادة الجزيرة، التى تعتبرها جزءا لا يتجزأ، من أراضيها. بدورها، حذرت روسيا، واشنطن والناتو، من تصعيد روسى فى غير موضع، مطالبة إياهم بتقديم ضمانات لحظر التوسع الشرقى للحلف، والتعهد بعدم قبوله عضوية أوكرانيا، مع وقف الدعم الغربى لتطورها العسكرى، والامتناع عن نشر أية منظومات تسليحية، أو قوات غربية على أراضيها.
إعمالا لمخرجات الأزمة الكوبية عام 1962،عبرإدراك تفاهمات لنزع فتيل الأزمات، تتمخض اتصالات مباشرة، عالية المستوى بين الأطراف الثلاثة، عن تجاوب أمريكى مع مبادرات صينية وروسية لخفض التصعيد. فتزامنا مع أجواء الغموض التى أرختها على حساباتها العسكرية إزاء تايوان، أبدت واشنطن تقبلها مناقشة المطالب الروسية بخصوص أوكرانيا، فى إطار منظمة الأمن والتعاون الأوروبية، و«مجلس الناتو ــ روسيا».

التعليقات