نحن بارعون فى وأد انتصاراتنا وتضييع مكتسباتنا.. طالع على سبيل المثال الحوار الصحفى الكارثى الذى نشرته (المصرى اليوم) وتضمن تشكيكا من أحد أكبر القيادات المخابراتية السابقة فى حقيقة انتماء (رفعت الجمال) المعروف شعبيا باسم (رأفت الهجان) بل وتصريحا بكونه عميلا مزدوجا؛ فى تطابق مريع مع الرواية الإسرائيلية (الواهية) فى هذا الشأن!
لست بصدد التوقف عند هذه الحادثة الغريبة بعينها؛ لكن ما يهمنى أن يستعيد المصريون لاسيما أجيالهم الشابة ـ وهى الأغلبية ـ ذكرى قدرتنا بمفردنا على إعادة ترتيب صفوفنا وانتشال مجتمعنا بأسره من أوحال هزيمة نفسية موجعة قبل أن تكون حسية مفجعة؛ وتمكننا من تخطى أصعب الموانع العسكرية فى التاريخ متجاوزين كل فوارق تقدم العدو التقنى والمادى علينا؛ ومتغلبين على كل حلفائه من الدول الكبرى.. كل هذا باقتصاد على شفا الانهيار؛ وجبهة داخلية غير مستقرة بل تموج بمشاعر الغضب من قياداتها تارة والإحباط واليأس تارة أخرى.
ما يهمنى هو حاجتنا فى هذه اللحظات تحديدا ومع أجيال لم تشاهد عبقرية اللحظة أن نراجع سويا الحالة المعنوية والاجتماعية والاقتصادية البالغة فى التدهور التى عشناها واستطعنا بفضل الله سبحانه التغلب عليها.
ورغم أنه لا ينقصنا عشرات الكتاب والمفكرين والأدباء لكنك لا تكاد تجد عملا أدبيا تأريخيا واحدا يصلح أن يدرسه طلبة المرحلة الإعدادية أو الثانوية عن تفاصيل الإنجاز العبقرى؛ فما الذى تدرسه الدولة لأبنائها عن حرب أكتوبر إلا تفاصيل سطحية تترك عظمة الحدث نفسه لتذهب إلى قشور لن تضمن أبدا تشبع النفوس الغضة الطرية بروح الإنجاز وثقافة الانتصار والتصميم على تحدى الظروف الصعبة وقهرها.
متى يُدرس ثبات الأعصاب عند اتخاذ أخطر القرارات وأصعبها؛ متى يُدرس الاعتماد على أضعف الإمكانيات وأقلها؛ بل متى تُدرس تفاصيل (إدارة الأزمة) فيما بعد هزيمة ١٩٦٧؟
ما أظهرته القيادة المصرية وقتها من ثبات فى مواجهة الحرب النفسية الشرسة التى لا تقل ضراوة عن حرب الميادين التقليدية؛ ثم إجراء الموازنة الدقيقة التى تحتاج إلى ثبات أعصاب وقوة إيمان بين ضرورة تلبية نداء الملايين الثائرة لكرامتها من هزيمة نكراء غير مسبوقة وبين ضرورة أن يكون الرد مساويا لحجم الجرح الغائر وما يتطلبه ذلك من صبر على التدريب والتخطيط ليحدث الأثر المطلوب بعيدا عن الارتجالية والعشوائية العصبية.
(ثقافة انتصارنا) فى أكتوبر تحتاج أن يسلط عليها الضوء بالدراسة أكثر من اهتمامنا بتمجيد الصنيع نفسه فعجلة الدنيا وحركة التاريخ من حولنا تهدر إلى الأمام بغير توقف؛ وما أشبه واقعنا الليلة فى التعقيد والتأزم بالبارحة.. فلا يمكن تصور حدوث طفرات فى التاريخ وتطور أمم وانتقالها إلى مصاف القوى الكبرى بالهوى المجرد عن العمل الدءوب الشاق والتخطيط المحكم والصبر على الثمرة.