الاستاذ بهجات - عماد الدين حسين - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:29 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الاستاذ بهجات

نشر فى : السبت 10 أكتوبر 2015 - 9:45 ص | آخر تحديث : الجمعة 23 أكتوبر 2015 - 11:57 ص

فى أكتوبر 1970 دخلت سنة أولى ابتدائى، فى مدرسة التمساحية الابتدائية المشتركة بمركز القوصية محافظة أسيوط، بعد أيام قليلة من وفاة الرئيس جمال عبدالناصر رحمه الله، ووقتها سرنا خلف نعش رمزى للمشاركة فى وداع هذا الزعيم الكبير ابن قرية بنى مُـر بأسيوط.

المدرسة الابتدائية بأكملها من أولى إلى سادسة كانت عبارة عن فصل واحد لكل صف، أى ستة فصول فى المدرسة، وأربعة مدرسين فقط، ومعهم الناظر الشيخ محمود طه الخطيب، الذى كان يعمل أيضا مدرسا للغة العربية والدين، وعلّامة بارزا فى اللغة والفقه، وهو أيضا خطيب الجمعة المفوه فى مسجد القرية الرئيسى، ثم الأستاذ نعيم توفيق كاراس، مدرس العلوم والرياضيات والناظر التالى وصاحب الفضل الكبير على كل أبناء هذا الجيل، والاستاذ مايز عبدالرحيم فزاع مدرس التاريخ والجغرافيا، والاستاذ جمال مصطفى، رحمه الله، وأخيرا الأستاذ بهجات عبدالرحيم ــ رحمهم الله جميعا.

صورة الاستاذ التى انطبعت فى ذهنى لاحقا مثلها هؤلاء الاساتذة ومنهم الاستاذ بهجات الذى انتقل إلى جوار ربه يوم الاربعاء الماضى، وحزنت عليه كما لم أحزن على أحد منذ زمن طويل؛ لأن وفاته تعنى مزيدا من الابتعاد عن القيم التى كان يمثلها هو ومعلمو عصره.

كان مثقفا نموذجيا وأحد القلائل الذين شجعونى على القراءة وأنا صغير، وكنا نستعير الكتب الدينية والأدبية من بيته، فى وقت كان ذلك شيئا نادرا فى قرية بالصعيد. كان الأستاذ بهجات مشاركا بفاعلية فى منظمة الشباب وقتها، وما زلت أتذكر الندوات التثقيفية والمسابقات الرياضية وحملة التشجير والنظافة التى كان ينفذها أعضاء هذة المنظمة بالقرية والقرى المجاورة.

كان متدينا جدا ومنفتحا جدا، يقرأ لكل أدباء عصره ويعمل إماما فى المسجد الذى بناه أمام بيته، لم نكن نعرف وقتها ماذا يعنى التطرف، ولم نكن نعرف الفتنة الطائفية، رغم أن قريتنا كان بها الكثير من الإخوة الأقباط، وعندما أنهينا الشهادة الابتدائية بالقرية درسنا سنوات الشهادة الإعداية الثلاث فى مدرسة الدير المحرق ومعظم مدرسيها من الأقباط.

كان الأستاذ بهجات مثالا لكل القيم المحترمة والنبيلة، وصاحب ابتسامة محببة.. ودود جدا، وهادئ الصوت وصاحب حجة، لكنه صارم عند اللزوم، ولذلك كنا نحبه جدا ونهابه تماما.

وشأن معظم التلاميذ بالصعيد والريف فى هذه الأيام، كنا نجرى بسرعة عندما نرى أحد المدرسين يسير فى شوارع القرية بعد نهاية اليوم الدراسى، وكان يحاول أن يهدئ من مخاوفنا وقتها.

سافر الأستاذ بهجات إلى اليمن فى إعارة لمدة أربع سنوات ثم عاد كما هو، وتدرج فى عمله حتى صار ناظرا للمدرسة، التى كبرت وتوسعت، وظل محتفظا بكل صفاته النبيلة.. لم يتدخل فى شأن غيره، إلا إذا كان للصلح والتوفيق بين شخصين مختلفين.

خرج إلى المعاش وشكا لى ذات مرة عندما زرته فى منزله فى أحد الأعياد من عدم العمل، لأنه تعوَّد دائما أن ينام بعد صلاة العشاء ويستيقظ قبل صلاة الفجر، ولذلك ظل محتفظا بصحته نسبيا مقارنة بعمره.

نموذج الحاج بهجات هو الذى نفتقده الآن فى مدارسنا وحياتنا، وربما كان اختفاء هذا النموذج هو أحد أبرز اسباب انحطاط التعليم الراهن وتراجع القيم. صار غالبية المدرسين يحتاجون إلى من يعلمهم ويثقفهم كى يعلموا التلاميذ.. صاروا مطحونين فى دوامة الدروس الخصوصية لمواجهة دوامة المعيشة الصعبة.

صار لدينا أكثر من نوع للتعليم، على أساس الحالة الاقتصادية.. التعليم الحكومى الذى تخرج منه جيلى اختفى تماما، وصار عمليا بلا مضمون، ورأينا نماذج كثيرة لطلاب أنهوا مرحلة التعليم الفنى بالكامل ولا يعرفون كيف يكتبون أسماءهم!!.

أكتب عن الأستاذ بهجات النموذج الذى يكاد يختفى من حياتنا، سائلا الله أن يطيل عمر أمثاله، وأعـزى نفسى وكل تلاميذه وأسرته وشقيقه الكاتب الصحفى حمدى عبدالرحيم.

عماد الدين حسين  كاتب صحفي