التوازن طويل الأجل هو ضالة الاقتصاديين، هو الحال التى يُفترض ألا تحيد عنها الأسواق متى توافرت أسباب تلاقى العرض والطلب. عنده يتساوى النمو الاقتصادى الحقيقى مع النمو الممكن أو الطبيعى الذى يشهد التشغيل الكامل للموارد، دون ضغوط تضخمية أو ركودية.
فمنذ نشأة الاقتصاد الحديث، كان التوازن طويل الأجل حلمًا يُبرّر سياسات الحاضر، وذريعة لتأجيل الإصلاح بحجة أن الزمن كفيل بتصحيح أخطاء السوق. وحين قال جون مينارد كينز ساخرًا: «فى الأجل الطويل كلنا أموات»، كان يُحذر من الإفراط فى انتظار المستقبل ليُصلح الحاضر. لكن تجاهل الأجل الطويل لعقود بحجة أنه شأن مؤجل، جعل هذا الأجل يأتى أخيرًا محمّلًا بكل التشوهات التى اختبأ منها الكينزيون والنيوكلاسيك. لقد حلّ الأجل الطويل، وجاء معه التفاوت الصارخ فى الثروة، واحتكار المعرفة والموارد، وتوازن يخدم القلة على حساب غالبية البشر.
افترض الكلاسيكيون منذ فالراس ومارشال أن الأسواق قادرة على تصحيح ذاتها، وأن جهاز السعر يعمل بشكل تلقائى لتصحيح الاختلالات، إذ إن الأسعار ستتجه دائمًا نحو مستويات الكفاءة المثلى فى ظل فرضية المنافسة الحرة. لكن التجربة أثبتت أن السوق لا تعمل فى فراغ، بل فى مجتمع تحكمه قوى المصالح الخاصة والنفوذ، وأن معظم فروض النظرية الكلاسيكية لا تتحقق فى الواقع. ومع مرور الوقت يتحول التوازن إلى حالة راكدة من توزيع المنافع، تُبقى المستفيدين فى مواقعهم، وتمنح الاستقرار اسمًا زائفًا يخفى ركودًا هيكليًا.
جاء كينز فى ثلاثينيات القرن الماضى ليكسر تلك الحلقة، فأثبت أن الاقتصاد قد يستقر عند مستويات منخفضة من التشغيل والدخل، وأن التوازن لا يعنى بالضرورة الرفاه. دعا إلى تدخل الدولة لتحفيز الطلب الكلى، فكان ذلك تحوّلا فكريًا عميقًا. غير أن التطبيق اللاحق للأفكار الكنزية انحرف عن مقصده، إذ تحولت سياسات الإنفاق إلى مسكنات قصيرة الأجل تعالج الركود الظاهر ولا تمس جذوره. فبدلًا من أن يكون تدخل الدولة إصلاحًا هيكليًا، أصبح وسيلة لتثبيت اختلالات قائمة، ما أنتج توازنًا طويل الأجل مختلًا يقوم على تضخم الديون واستدامة العجز وتراكم الثروات فى قمة الهرم المجتمعى.
الأجل الطويل الذى كان كينز يحذّر من انتظاره صار واقعًا نعيشه اليوم تشوّهات متراكمة فى أسواق العمل، وميل متزايد لصالح رأس المال على حساب الأجور، وانحياز مستمر فى السياسات المالية لصالح الأقلية. تتبدل الشعارات بينما يظل جوهر المنظومة على حاله: توازن مستقر فى الظاهر، غير عادل فى المضمون. لقد تحوّل مفهوم الاستقرار الاقتصادى إلى غاية فى ذاته، كأن استقرار الأسعار والنقد هدف مكتفٍ بنفسه، لا وسيلة لرفاهية البشر.
• • •
فى خضم هذا الواقع، يلفت بول كروجمان الأنظار إلى أن النمو ذاته لا يحدث فى خط واحد، وأنه بطبيعته غير متوازن. فالتقدم التكنولوجى المتمركز فى قطاعات محدودة مثل الذكاء الاصطناعى والاقتصاد الرقمى يولّد نموًا سريعًا لكنه يخلق فجوات ضخمة فى الأجور والإنتاجية. يرى كروجمان أن هذا النوع من النمو الخالى من الوظائف يُنتج توازنًا جديدًا غير عادل، لأن عوائده تتراكم فى قطاعات محددة بينما تظل بقية الاقتصاد فى حالة ركود هيكلى. يشبّه كروجمان الاقتصاد العالمى بمركب يسير بسرعة فائقة فى المقدمة بينما تتباطأ مؤخرته، فلا يسقط المركب لكنه يميل باستمرار، مهددًا بالانقلاب عند أول موجة.
ذلك النمط من النمو غير المتوازن لم يعد استثناءً بل أصبح السمة الغالبة للنظريات السائدة المعاصرة. يتجمع رأس المال فى شركات التكنولوجيا والتمويل والإعلام، والأسواق تُعاد صياغتها لحماية مصالحها. البنوك المركزية تتدخل عند الأزمات لكنها لا تعيد توزيع الثروة بل تُثبّت مواقعها. هكذا يتحقق «التوازن طويل الأجل» فى صيغته الجديدة: توازن يخدم الأقليات، ويُقدّم للرأى العام باعتباره استقرارًا لا بديل له.
الأزمة المالية عام 2008 كانت نموذجًا فاضحًا لهذا التوازن الزائف، إذ تدخلت الحكومات لإنقاذ النظام المالى على حساب دافعى الضرائب، فخرجت المؤسسات الكبرى أكثر ثراءً، والمجتمعات أكثر هشاشة. تكرّر المشهد بعد الجائحة حين استُخدمت السياسات التوسعية لحماية الأسواق لا لتصحيح اختلالاتها. توازنٌ يتحقق بالمسكنات لا بالإصلاح، ويُقاس بسلامة المؤشرات لا بعدالة التوزيع.
إن مراجعة الفكر النيوكلاسيكى اليوم لم تعد ترفًا بل ضرورة عملية. فالنظام الذى يحقق النمو دون توزيع عادل لعوائده محكوم عليه بالاختلال، لأن العدالة ليست نقيض الكفاءة بل شرط لاستدامتها. التوازن الذى يحافظ على الأسواق دون الحفاظ على المجتمعات ليس توازنًا بل هدنة مؤقتة قبل الانفجار.
يُذكر هنا ما يعرف فى الاقتصاد بـ«توازن باريتو»، الذى يفترض حالة لا يمكن فيها تحسين وضع أى فرد دون الإضرار بآخر. وهو توازن مثالى تعرفه الكتب، لكنه فى الواقع يميل إلى تثبيت مصالح القادرين. فحين يحتكر البعض أدوات الإنتاج والتسعير والمعلومات، يصبح أى تغيير فى التوزيع تهديدًا لـ«كفاءة» السوق وفق هذا المفهوم. وهكذا يتحول توازن باريتو من معيار للعدالة إلى حجة ضدها، لأن أى إصلاح يعيد توزيع الثروة يُعد - من منظور شكلى - إخلالا بكفاءة التوازن القائم، حتى وإن كان هذا التوازن نفسه غير إنسانى.
• • •
يمكن رصد هذا بوضوح فى سوق الحبوب العالمية، حيث تتحكم قلة من الشركات متعددة الجنسيات فى سلاسل الإمداد من الزراعة حتى التسويق. فحين ترتفع الأسعار بسبب مضاربات أو قيود التصدير، تحقق هذه الشركات أرباحًا استثنائية، بينما تتفاقم أزمات الأمن الغذائى فى الدول النامية. ومع ذلك، يَعتبر الاقتصاديون التقليديون أن السوق «متوازنة»، لأن العرض ما زال يساوى الطلب عند مستوى سعر جديد. هذا هو «توازن باريتو» فى صورته العارية: توازن لا يعبأ بمن خرج من السوق جوعًا، ما دام من بقى فيه راضٍ بالسعر. إنه توازن اقتصادى منضبط بالمعادلات، مختل بالمعايير الإنسانية، يعكس كيف يمكن للنظام العالمى أن يستقر طويلًا فوق اختلال أخلاقى عميق.
تجارب الدول الإسكندنافية تقدم نموذجًا يُحتذى فى المواءمة بين الكفاءة والعدالة. فقد احتفظت هذه الدول بآليات السوق لكنها كبحت جماحها بنظام ضريبى تصاعدى وشبكة أمان اجتماعى قوية، فحققت توازنًا ديناميكيًا يضمن النمو دون أن يُعمّق التفاوت. وكذلك فعلت كوريا الجنوبية فى مراحل نهضتها الأولى، حين وجهت الدولة الاستثمار نحو القطاعات الإنتاجية الحقيقية عوضًا عن ترك رأس المال يلهو فى المضاربات المالية. تلك التجارب لم تُلغِ الرأسمالية بل أعادت تعريفها بوصفها عقدًا اجتماعيًا بين العمل ورأس المال، لا نظامًا جامدًا للربح والاستهلاك.
التوازن الذى يسعى إليه الاقتصاديون ليس معادلة رياضية بل نتيجة تفاعل أخلاقى بين الكفاءة والرحمة، بين النمو والكرامة الإنسانية. وعندما تُختزل السياسات فى أرقام النمو والتضخم، يُفقد الاقتصاد روحه التى انطلق منها علمًا لخدمة الإنسان.
لقد آن الأوان للاعتراف بأن الأجل الطويل الذى أُجّل طويلا قد حلّ فعلا، وأن التشوّهات التى وُعدنا بأن يصححها المستقبل قد أصبحت واقعًا يوميا. الرأسمالية فى نسختها الحالية تقف عند مفترق طرق: إما أن تُعيد التوازن على أسس من العدالة، أو تستمر فى توازن يخدم القلة ويُقصى الكثرة حتى ينهار بذاته. فكما قال كينز يومًا، إن الاقتصاد فى النهاية علم للعيش الكريم، لا وسيلة لإدامة تفوق بعض البشر على بعضهم البعض.
كاتب ومحلل اقتصادى