زهران ممدانى وبلاده - شريف عامر - بوابة الشروق
الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 8:18 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يفوز بالسوبر المصري؟

زهران ممدانى وبلاده

نشر فى : الإثنين 10 نوفمبر 2025 - 7:20 م | آخر تحديث : الإثنين 10 نوفمبر 2025 - 7:20 م

حدقت فى سقف الغرفة المظلمة خائفًا ووحيدًا. كنت أفترش الأرض قبل وصول الأثاث للمنزل الذى انتقلت للعيش فيه كصحفى وتليفزيونى مقيم يخطو أولى خطواته فى واشنطن، عاصمة العالم الأهم.
• • •
سألت نفسى بصوت مسموع: «لماذا جئت لهذه البلاد؟» قال لى أستاذى حسن حامد: إن وجودى هنا سيكون علامة فارقة فى مسيرتى المهنية طالما توفرت الفرصة. قال الفريق يوسف صبرى أبو طالب لوالدى الرافض: «ثق فى جذور ابنك، لن تقتلعها الرياح الأمريكية».
• • •
لم أرَ نفسى مهاجرًا قط، والعودة يقين فى قدر مكتوب.
عشت حياتهم معهم سنوات، ولم أنجح أبدًا فى توقع القادم فى المشهد الأمريكى.
حققت قدرًا من النجاح أتاح لى فرصة محاورة كبار على الخريطة الأمريكية.
تحدثت مع السيدة الأولى، والوزيرة السابقة هيلارى كلينتون.
قرأت عن چيمى كارتر، الرئيس صانع السلام، قبل أن أجرى معه لقاءً فى الزيارة الوحيدة التى قام بها للقاهرة بصفته غير الرئاسية عام ٢٠١٢. قابلت مبعوثين رئاسيين، ومرشحى رئاسة، ورؤساء شركات، وصحفيين.
• • •
ما بين إقامة وزيارة، ذهاب وعودة، بقيت العبارة الأدق والأصلح لوصف هذه البلاد لصاحبها السودانى العظيم الطيب صالح رحمه الله:
«كلما قلت هذه أمريكا، ظهرت أمامى أمريكا جديدة».
• • •
استرجعت هذه العبارة العام الماضى بعد عودة دونالد ترامب كرئيس إلى البيت الأبيض، خُروجًا عن كل مألوف فى التاريخ والثقافة التى لا تنظر ورائها أبدًا. وفى نفس التاريخ، بعد عام واحد، استرجعتها وأنا أتابع إعلان مدينة نيويورك تمردها.
• • •
المدينة التى يسكنها خليط عجيب من كل الأرض، وتمثل قلعة الرأسمالية الحصينة، اختارت شابًا يمثل كل ما تناقضه أعمدة السياسة والمال التى تقوم عليها الولايات المتحدة الأمريكية.
• • •
كل ما فى حياتهم اليومية لاهث الإيقاع، لكنه وفق قواعد لا تتزحزح.
معيار النجاح الأهم أن تكون قادرًا على تسديد فواتيرك، سواء كنت غنيًا أو فقيرًا.
• • •
يصل راتبك الشهرى على دفعتين فى حسابك البنكى كل أسبوعين فى معظم الأحوال. يتم خصم فواتير المعيشة والمرافق وكل ما يتعلق بحياتك من أقساط، ويتبقى لك القليل لسداد أقساط أخرى لبطاقة الائتمان التى تناسب مستوى الحياة الذى وفره تعليمك أو عملك.
إذا فقدت الوظيفة، فقدت كل شىء.
• • •
حياة لا تتوقف وفق سلسلة لانهائية من المتطلبات والحقوق والواجبات.
وإذا كان معيار النجاح الأهم أن تكون قادرًا على سداد فواتيرك، فإن سلاحك الأهم للحفاظ على حقوقك هو صوتك يوم انتخاب المجلس المحلى فى الحى أو المقاطعة، ويوم انتخاب النائب أو السيناتور الذى يمثلك، ويوم انتخاب الرئيس.
• • •
اختيار السياسى أو الموظف العام يتعلق بأمر واحد لا يأتى قبله شىء: أن يضمن هذه الحياة فى متناول العامة ممن يمثلهم.
إذا اختل ميزان الحقوق والواجبات، يصبح كل محظور ممكنًا، وكل خيال واقعًا.
• • •
هكذا اختاروا باراك أوباما، وأعادوا ترامب للبيت الأبيض. هكذا شعروا بالخطر مجددًا، فاختارت المدينة التى تتداول بورصتها يوميًا ٣٠٠ مليار دولار من نتاج النظام الرأسمالى العتيد، شابًا اشتراكيًا مهاجرًا مسلمًا ليدير حياة سكانها ويعيد التوازن المفقود.
• • •
كان طفلا فى العاشرة يخاف الخروج من منزله بعد هجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١، ثم رأه العالم بعد ٢٤ عامًا يقف فى بقعة الضوء يحتفل بالفوز بمنصب إدارة أهم مدينة فى العالم.
• • •
أنتجت نيويورك الاثنين: أنتجت المقاول الأبيض الذى صار رئيسًا، والمهاجر الأسمر الشاب الذى عبر عن جيل يعادى أفكار الرئيس والمؤسسات وما تمثله.
نحن نراه تناقضًا صارخًا، وهم يرونه جراءة اختيار ودفاعًا عن الحقوق.
• • •
سألت صديقى الأمريكى عن الصدمة الجديدة، فقال:
«ألم تقل إنك توقفت عن الدهشة؟ عموما، ما يهم أننى أملك صوتًا وقرارًا وقدرة على التجربة. هذا حقى فى هذا البلد. تسحقنى متطلبات الحياة كل يوم، وسلاحى الوحيد هو اختيار المدير أو تغييره. الشركة تملك حق فصلى من وظيفتى فى لحظة، وأنا أملك حق فصل الموظف العام أيضًا».
ما قاله الصديق قد يبدو تبسيطًا مُخلا، لكنه خلاصة موجزة للواقع فى بلادهم التى اخترعت ثقافة الاختصار والمباشرة فى كل شىء.
• • •
فى بلادهم كل شىء مؤقت، حتى فى أقوالهم الدارجة اليومية: «استمتع بغذائك»، «استمتع بعشائك»، «استمتع بالظهيرة أو المساء». حتى إن سألت موظف استقبال فى مبنى عن اتجاه الخروج، يبدأ رده بما معناه:
«آخر علمى…» ثم يشير إليك بالاتجاه.
أبعد من ذلك، لا شىء حتميا أو ثابتا، أو مقدسا.
• • •
حتى هذا المهاجر الذى تسلم بطاقة الإقامة الخضراء أو جواز السفر منذ شهور، لا يهم من أين جاء، ولا من أبوه أو أمه.
هو الآن هنا، وربما يكون ممدانى آخر يومًا ما فى أمريكا أخرى جديدة ضمن ما قال عنه «طيبنا الصالح».

التعليقات