كان «جيرو» مزارعا ميسورا يعيش فى قرية «شينجو» فى أوكوياما باليابان فى منتصف القرن التاسع عشر، وكان يملك بضعة أفدنة ورثها قاحلة عن أبيه، حيث تعرضت للإهمال خلال فترة مرض الأب وانشغال «جيرو» بالدراسة والتعليم. عاش «جيرو» بضع سنين فى ظروف جفاف صعبة للغاية عانت منها بلدته بالكامل، لكنه استطاع أن يقلل خسائره بفضل ذكائه وتعليمه الذى ساعده على تطوير فنون زراعته، واختيار المحاصيل المناسبة لأحوال الجفاف، وتخفيض الهدر من عمليات الزراعة والرى والحصاد والتخزين. كانت مخازن «جيرو» عامرة بمختلف أصناف المحاصيل، فى الوقت الذى بدت فيه المجاعة شبحا محلقا فوق مدينته بالكامل يوشك أن يطبق عليها بلا رحمة.
بدأ الحسد تجاه «جيرو» يتملك من أفئدة جيرانه وأثرياء قريته، على الرغم من حرصه على أعمال الخير وإطعام المساكين. كانت مخازنه تفتح أبوابها كل ليلة لتوزيع الطعام على المحتاجين وكانوا يدعون له بالخير، فيزداد أنداده كرها له وحقدا عليه، فهم ينفسون على الرجل تلك النعمة التى بدت عليه وفاضت خيراتها على الفقراء، فى الوقت الذى يعانى فيه الكافة حتى من يكنزون الذهب والفضة من نقص الغذاء.
اجتمع أصحاب الحل والعقد فى قرية «شينجو» فى ديوان الحكم، واتخذوا قرارا عجيبا لم يسبق أن صدر فى تاريخ اليابان. فقد قرروا منع المياه عن أراضى «جيرو» عبر خطة خبيثة ظاهرها توفير المياه وتحسين توزيعها على مختلف الأراضى الزراعية، وباطنها تجفيف كل الترع المؤدية إلى جنات «جيرو» بالتدريج حتى يظمأ الزرع وتجف المحاصيل.
فهم «جيرو» الغرض من قرارات الديوان، حاول جاهدا أن يشرح لمتخذيه مخاطر تجفيف الترع التى لن تؤذى أرضه فقط، وإنما سوف تكون عاقبتها كارثية على سائر القرية مستقبلا. فلما استيأس منهم جمع العاملين فى أرضه، وبدأ معهم فى حفر آبار بحثا عن المياه الجوفية، استعدادا لجفاف مرتقب فى الترع التى تعانى بالفعل من نقص شديد فى المنسوب. استمر الحفر شهورا قبل أن تظهر قطرة مياه واحدة من باطن الأرض، وكان من أهل القرية من يمرون على «جيرو» وعماله مستهزئين، يقول أحدهم: هل جننت يا «جيرو»؟! هل تبحث عن مياه فى باطن الأرض وقد انقطع عن ظاهرها الغيث منذ سنوات؟... ويقول آخر ساخرا: احفر يا «جيرو» فربما تصل إلى كنز مطمور تشترى به الماء والكلأ من الغرب... كانت تعليمات «جيرو» لرجاله ألا يضيعوا الوقت فى الرد على الساخرين، وكانت مخازنه تفتح كعادتها كل ليلة لإطعام الفقراء والمساكين، لم يخش فقرا وشيكا ولم تمنعه التكاليف الجديدة للحفر من العناية بالمحتاجين.
• • •
جاء فصل الصيف شديد الجفاف وصدقت توقعات «جيرو» إذ ساهمت تحويلات المياه العذبة فى انخفاض مناسيب جميع الترع، وأصبح الماء شحيحا لدرجة أن العطش لم يعد يصيب النباتات فحسب، بل تجرع ويلاته عدد كبير من أهالى القرية. لكن «جيرو» الذى حفر الآبار تمكن من تدبير جميع احتياجاته ومحاصيله من المياه، وخصص بئرا للشرب جعلها سبيلا بغير مقابل، حتى أن أغنياء القرية قبل فقرائهم كانوا يلوذون بتلك البئر لتدبير احتياجاتهم اليومية للشرب والاغتسال وطهى الطعام.
وعندما غارت تلك البئر من فرط الاستخدام اجتمع ديوان الحكم مجددا، وهذه المرة اتخذوا قراراهم بمصادرة جميع آبار «جيرو» الواقعة فى حدود أرضه لاستخدامها فى إصلاح شئون الناس. لم يعترض «جيرو» على القرار، بل تبرع لهم بالأدوات التى طورها لرفع المياه للشرب والزراعة، لكنه أكد أن المياه بدأت تنضب سريعا وارتفعت بها نسبة الملوحة، ومن الضرورى حفر آبار أخرى فى مناطق جديدة بالقرب من مخرات السيول القديمة. كعادتهم استمر أصحاب القرية فى عنادهم، ولم يستمعوا إلى «جيرو» الذى كان غاية همهم تجريده من آخر قطرة ماء، بل منعوه وعماله من حفر أية آبار جديدة، بحجة أنه لا يملك أن يحفر إلا فى أراضيه.
وفى صبيحة يوم قائظ فوجئ أهل القرية أن «جيرو» قد اختفى! قال أحد عماله أنه حمل أهله وما استخف من متاع على راحلتين وانطلق بهم ليلا جهة الغرب. اقتحم الناس مخازنه فوجدوه لم يمس ما بقى فيها من مؤن، وسريعا انقض عليها جمع غفير فأفنوها عن آخرها. لم يمض أسبوع واحد على رحيل «جيرو» حتى غارت الآبار واشتدت ملوحتها لدرجة أنها صارت أكثر ملوحة من مياه البحر المغلق. فسد الزرع واشتد العطش والجوع بمختلف مخلوقات القرية. خرج فقراء القوم يطلبون الماء والطعام المدخر فى بيوت الأغنياء، بعدما انقطع المدد من مخازن «جيرو». كان سؤال الفقراء مهذبا أول الأمر، ثم سرعان ما بدأ يتخذ صورا عنيفة، بعدما تجمعوا فى تشكيلات عفوية، صارت فيما بعد عصابات لقطع الطرق على سكان القرية وأهل السبيل والتجار. تمترس الأغنياء فى بيوتهم التى صارت كالسجون، وتملكهم الرعب من غضبة الفقراء الذين حملوهم ذنب رحيل «جيرو» وكل ما أصاب القرية من فساد.
انتشرت الجرائم فى أنحاء «شينجو» وسالت الدماء فى طرقاتها كما لم يسل الماء من قبل. وأمست القرية الوادعة آنفا أرضا قاحلة منعزلة يعافها الناس ويتجنبون المرور بها خوفا على أرواحهم وممتلكاتهم. إلى أن أيقظ الناس صوت مألوف، الغيث ينهمر من السماء، والجميع قد خرجوا من بيوتهم وتخلوا عن حذرهم استقبالا للطف الله الذى ظنوا أنه لن يعود إليهم أبدا. وبينما الخلق يرقصون فرحا تحت الأمطار ظهر فى الأفق ما خطف الأنفاس واستلب البصائر. كانت قافلة ضخمة تقترب من جهة الغرب تحمل بضائع كثيرة، وفى مقدمتها راكب طالت غيبته، إنه «جيرو» الذى ما إن أصبح بين الجماهير حتى حملوه عن الأرض بفرسه طربا لعودته واستبشارا بمقدمه الذى صاحبه القطر من السماء.
كانت أول كلمات «جيرو» أنه نذر كل ما تحمله القافلة من خيرات لأهل قريته، ثم جلس فى الطريق يقص عليهم كيف أنعم الله عليه برزق وفير فى أرض لم تحرمه ثمارها وماءها إذ لم يقف قومها حائلا دون ذلك. عندها تبادل أهل الحل والعقد النظرات وانطلقوا وهم يتخافتون: «آن للديوان أن ينعقد من جديد».
• • •
فى الديوان قرر المؤتمرون خلال دقائق أن توزيع حمولة القافلة التى أتى بها «جيرو» ليس من اختصاصه، وأنه يجب أن يتم التوزيع بشكل عادل يضمن السيطرة على القرية، وعدم استلاب البضائع أو إشاعة الفوضى. بالفعل فوجئ الجمع الذين كانوا قد تحلقوا بالرجل الصالح فى طرقات القرية التى غسلتها مياه الأمطار، بأن نفرا من جند الديوان قد أتوا لمصادرة القافلة... كاد الناس يفتكون بهم لولا أن «جيرو» نهاهم عن ذلك وأمر رجاله أن يساعدوا الجند فى نقل البضائع إلى مخازنه القديمة، والتى تبرع بها لديوان القرية يديرونها كيفما شاءوا. عاد «جيرو» وأهله إلى بيته فى «شينجو» الذى وجده قد نهب عن آخره ثم أرسل مناديا فى القرية يقول أنه سوف يهاجر مجددا بعدما يطمئن إلى توزيع محتويات القافلة على الناس. مرت أيام لم ينقطع فيها مدد السماء، ولم يحصل الناس على شىء من القافلة، وانشغل أهل القرية جميعا بالزراعة التى حرموا خيراتها فى زمن الجفاف. وبعد أن مضى على عودة «جيرو» شهر كامل دون خبر عن توزيع الأرزاق، انطلق بعض الغاضبين تجاه المخازن واقتحموها رغما عن حراسها فلم يجدوا فيها شيئا!... عندها اجتمع «جيرو» بأهل القرية فى وضح النهار وأخبرهم أنه سوف يسير عائدا إلى الغرب، إلى البلدة التى فيها يغاث الناس وفيها يعصرون، وأن مزارعه هناك تحتاج إلى كل ذى همة للعمل... كان أهل الحل والعقد مجتمعين فى ديوانهم، وما إن سمعوا بما أعلنه «جيرو» حتى قرروا حبسه بتهمة إثارة الناس، فلما خرجوا من الديوان بحثا عنه وجدوا أن القرية كلها صارت خاوية على عروشها.
بعد عقود على ذلك اليوم، دلف بروفيسور «مارك» إلى قاعة المحاضرات بكلية الاقتصاد بجامعة كمبردج البريطانية. أمسك القلم وأخذ يخط عنوان الدرس الأول لمادة «تنظيم أسواق المال والسيولة والاستثمار» فكتب لطلابه: «آبار جيرو».