نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب سام منسى، يذكر فيه أبعاد انتهاج بنيامين نتنياهو سياسة الهروب والمناورات متمثلة فى العمليات العسكرية التى وقعت فى جنين أخيرا، مشيرا إلى نتائج هذه السياسة على الصعيد الفلسطينى والإسرائيلى.. نعرض من المقال ما يلى.
أصح توصيف للعمليات العسكرية فى جنين بالضفة الغربية وفى غزة، أنها تجرى فى الوقت الضائع إسرائيليا، ولبنيامين نتنياهو شخصيا بخاصة، وكذلك بالنسبة للفلسطينيين ولهذه السلطة الفلسطينية العاجزة والهرمة. ما من تفسير مقبول أو مفهوم لأسباب العمليات العسكرية، سوى أنها بنظر نتنياهو مخارج متاحة للانسداد والحصار الخماسى الأبعاد المفروض عليه، أو الذى وضع نفسه فيه.
البعد الأول هو إصراره على الائتلاف السياسى مع اليمين المتشدد، والذى يتطلب منه كسر الفلسطينيين والتشدد العنيف معهم، كما يحصل فى غزة وفى الضفة، كونه لا يستطيع أن يقدم لحلفائه أى مطالب أخرى. الثانى هو الهاجس الذى يسكنه بألا يتحول إلى إيهود أولمرت، ويدخل السجن جراء التهم الموجهة إليه. الثالث هو تفاقم الأزمة الداخلية غير المسبوقة، جراء الانتفاضة على مشروع إصلاح القضاء؛ خصوصا بعد أن أقرت لجنة الدستور فى «الكنيست» الأسبوع الفائت، مشروع قانون التعديلات القضائية، على الرغم من إعلانه الغامض تجميده. محاولات نتنياهو تحوير الأنظار نحو الشأن الفلسطينى وقضايا الإرهاب لشد عصب الرأى العام الإسرائيلى، لم تثنِ المنتفضين على ما يبدو. الرابع هو استماتة نتنياهو فى الحفاظ على الاتفاقات الإبراهيمية؛ لا بل توسيعها، فى وقت باتت فيه سياساته وحكومته تشكلان أكبر تهديد لها. وأخيرا المشكلة المستجدة مع الإدارة الأمريكية والرافضة كليا لسياساته وتحالفاته، ويرافق هذا الرفض الرسمى معارضة شرسة لغالبية كبيرة أو صغيرة، إنما فاعلة، لليهود الأمريكيين، لنتنياهو وحكومته، تركت تأثيرا كبيرا على العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، وعلى إسرائيل نفسها.
لم تبقَ أمام نتنياهو مخارج متاحة سوى العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين، للهروب إلى الأمام وتصدير مشكلاته. هذا التوجه يعبر بشدة عن سياسات المناورات والهروب إلى الأمام التى اعتمدها نتنياهو منذ أكثر من عقد، نقرأها فى مواقفه من عملية السلام المنسية، وفى سياسة الاستيطان المدمرة لحل الدولتين، أو ما تبقى منه، ومن الحرب فى سوريا وانعكاساتها السلبية على إسرائيل؛ إذ وضعتها فى مواجهة مزدوجة مع إيران: فى لبنان وفى سوريا.
• • •
النتائج المستخلصة لسياسات نتنياهو؛ لا سيما مع حكومته المتطرفة العنيفة، هى طلاق مع السلام، وطلاق مع ديمقراطية إسرائيل، ولو أنها ديمقراطية بين السكان اليهود، والمتجسد بمشروع إصلاح القضاء، والحد من صلاحيات المحكمة العليا، إضافة إلى تبنى مواقف شركائه فى الائتلاف، والتى وصلت إلى حد تشكيل عصابات مسلحة من المستوطنين يهاجمون القرى الفلسطينية ويستبيحونها.
نتنياهو الذى هدد لبنان بأنه سيرجعه مائة سنة إلى الوراء، أرجع فى الواقع إسرائيل من دولة تتباهى بديمقراطيتها وبأنها دولة قانون، إلى دولة تبيح الميليشيات المسلحة وممارساتها. كل ذلك دليل على افتقاره لأى استراتيجية وطنية، وأنه يتصرف بدوافع شخصية للبقاء فى الحكم، ويتحالف مع متعصبين غير مقتنع بفكرهم، ما يدفع ببلاده إلى شفير حرب أهلية.
فى المقلب الفلسطينى، المشهد لا يقل مأسوية. السلطة الفلسطينية باتت شبه معزولة عن غالبية السكان فى الداخل الفلسطينى والشتات، مع أجيال أصبحت فى العشرينيات من دون أى أفق لحل ينتشلها من واقعها الصعب، وفقدت أى تواصل مع القوى السياسية والعسكرية التقليدية، وكل ما تهدف إليه هو تغيير واقع الاحتلال والحصار والبطالة والفساد المستشرى. باتت السلطة فى حال طلاق تام مع الأجيال الشابة، وعاجزة عن ترجمة تطلعاتها وأهدافها فى السياسة أو الأمن أو الاجتماع، فنشأت مجموعات مسلحة قد تكون بمعظمها غير ممسوكة من جهات سياسية أو عسكرية معروفة.
الزمن الفلسطينى توقف منذ سنوات طوال؛ لا سيما بعد انهيار اتفاق أوسلو، ومن دون الغوص فى المسئولية عن انهياره إسرائيليا وفلسطينيا، يبقى أن «أوسلو» من دون عملية سلام واقعية لا تعنى شيئا، وهذا ما أدى إلى الوضع الراهن.
تمسك نتنياهو بمواقفه وعناده وإمعانه فى الشراسة وتوسيع الاحتلال، مضافا للواقع الفلسطينى فى الأراضى المحتلة، بين الانقسام والشرذمة وعجز السلطة وانعدام السياسة والفساد المستشرى، ما هو المتوقع للفلسطينيين؟ التوقعات أحلاها مر، بين المراوحة فى العنف الذى قد يشتد أحيانا ويخبو أحيانا أخرى فى عذاب بطىء للفلسطينيين. وإذا تصاعد العنف وتحول إلى حرب واسعة النطاق بين الفلسطينيين وإسرائيل، فستكون لذلك ارتدادات خطيرة تدخل المنطقة فى مسار خطير؛ لأنه سيجر تدخل قوى كثيرة يصعب ردعها، وعلى رأسها تلك المتحالفة مع إيران، ولن يتوقف هذا المسار من دون تراجع حكومة نتنياهو أو سقوطها.
• • •
ويبدو أن الرهان على أدوار للخارج، للضغط على نتنياهو وحكومته، شبه معدوم: الولايات المتحدة منشغلة بالانتخابات الرئاسية حتى نوفمبر (تشرين الثانى) 2024، ويستحيل أن تضغط بشكل ملموس ومؤثر على نتنياهو، بسبب خوف الحزبين الديمقراطى والجمهورى من خسارة أصوات اليهود الأمريكيين المؤيدين لليمين. أما أوروبا، فيصعب أن تتفق دولها على رأى واحد، وإذ اتفقت فستأخذ وقتا طويلا لترجمته فى السياسة. تبقى روسيا المنشغلة فى حربها فى أوكرانيا ومشكلاتها الداخلية، والصين التى لا يزال تأثيرها محدودا على هذا الصعيد، هذا إذا شاءت التدخل. العامل الخارجى الأخير هو الضغط العربى الذى ينبغى ألا نقلل من تأثيره، ويصعب أن يبقى متفرجا أو محايدا.
فهل يقامر نتنياهو بمكتسباته، وبما يمكن أن يتحقق مستقبلا على صعيد العلاقات مع العالم العربى؟ الإجابة ممكنة فقط عند معرفة حدود جنون اليمين الإسرائيلى ومخاطره؛ ليس على الفلسطينيين فحسب؛ بل على إسرائيل نفسها. هذه المخاطر قد تفتح نافذة العامل الداخلى، أى دور المعارضة الليبيرالية فى قلب المعادلة، والتى بدأت تعى الصلة بين نضالها من أجل الديمقراطية، واستمرار الصراع الإسرائيلى ــ الفلسطينى. وأظهرت الأحداث الأخيرة فى غزة وجنين مدى تأثير القضيتين على مكانة إسرائيل ومسارها المستقبلى، مع تسجيلها رابع أكبر تدهور لجهة السلمية؛ إذ تراجعت 8 مراتب لتحتل المرتبة 143 فى العالم، حسب مؤشر السلام العالمى لعام 2023.