لم يكد العالم يلتقط أنفاسه من التبعات الاقتصادية المباشرة لصدمة جائحة كورونا، حتى تلاحقت علينا الأزمات التى ضربت مختلف أوجه النشاط الاقتصادى فى كل بقاع الأرض.
انتشار كورونا وما صاحبه من هلع مبرر أدى إلى توقّف العمل والإغلاق الكلى والجزئى بعدد كبير من المصانع والمزارع والخدمات. الأمر الذى أسفر عن انكماش اقتصادى بغالبية الدول، وتحقيق معدّل نمو سالب للناتج المحلى الإجمالى فى العام 2020 لعدد 166 دولة من أصل 194 دولة شملهم إحصاء موقع Statistics Times والذى أكد على أن تلك الاقتصادات المنكمشة اقتصاديا تمثّل نحو 78% من حجم الاقتصاد العالمى بقيمة تقترب من 66 تريليون دولار، ومن بينها الاقتصاد الأكبر فى العالم المتمثل فى الولايات المتحدة الأمريكية، والذى تراجع فى ذات العام بنحو 3.5% فى سابقة انكماش لم تشهدها الدولة منذ العام 2009 فى أعقاب أزمة الرهن العقارى القاسية، بل وبمعدل تراجع لم تشهده منذ العام 1946 فى أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية!.
هذه الموجة الانكماشية كان من المتوقع أن ترتد بمجرد مرور الرياح العاتية لكوفيدــ19، وأى ارتداد من هذا المستوى المنخفض يحتاج إلى مصادر كبيرة للطاقة والتمويل، ويزيد معه المعروض النقدى بشكل مفاجئ وغير متماثل Asymmetric نظرا لكون كل دولة قد استجابت بشكل مستقل لصدمات كورونا، بل وكل دولة كان لها نمط مستقل فى شكل الإصابة والتعافى النسبى منها.
من هنا انتظر المحللون موجة من ارتفاع الأسعار ناتجة عن طفرة فى معدلات الطلب على مختلف السلع والخدمات، مع عدم كفاية المخزون لإشباع هذا الطلب. كان على العالم كله إذن أن يعيد وضع قابس التشغيل لكل ما تم إيقافه خلال ما يقرب من عامين من الارتباك. ولأن وقود التشغيل والنمو فى كل العالم مازال متمثلا فى مصادر الطاقة التقليدية الأحفورية بشكل رئيس، فإن صدمة بترولية (عكسية) تتشكل ملامحها الآن بعد أن اقتربت أسعار عقود النفط المستقبلية من الصفر فى بداية أزمة كورونا، مع زيادة حالة عدم اليقين التى غرقت فيها الأسواق لدى تفشّى الفيروس العنيد.
والصدمة العكسية مصطلح استُخدِم تاريخيا لوصف تراجع أسعار البترول بنسب كبيرة بعد تعرّضها لارتفاع عنيف. لكننا نعيد استخدامه اليوم لوصف ارتفاع أسعار خام برنت إلى ما يزيد على 83 دولارا/برميل وهو المستوى الذى لم يتحقق منذ ثلاث سنوات، والمتوقع أن يتجه معه سعر البرميل إلى مستوى المائة دولار لو استمرت أزمة نقص المعروض من الغاز الطبيعى، والتى تلقى بظلالها على مختلف بدائل الغاز وخاصة النفط والفحم.
كذلك فإن اقتراب فصل الشتاء وتباين التوقعات بشأن مدى برودته أمر شديد التأثير على عقود النفط ومشتقاته وبدائله. يلاحظ أن أوروبا بدأت تواجه أزمة كبيرة فى إمدادات الغاز الطبيعى ردد البعض على إثرها أن هذا المنتج ليس له «مملكة سعودية» لصناعة سوقه وتحقيق التوازن. وهو الدور الذى يمكن أن تلعبه روسيا لو أرادت وتحملت تكلفته الحالية والمستقبلية. كذلك بدأت الصين تتبنى نظاما دوّارا فى قطع الكهرباء على المنازل، وغلق بعض المنشآت الصناعية لتوفير الطاقة وفقا لعدة مصادر موثوقة. ولا يخفى على أحد أزمة الوقود فى إنجلترا والتى ضاعف من حدتها تبعات بريكست ومنها نقص الأيدى العاملة الرخيصة التى كانت تفد من شرق أوروبا لقيادة شاحنات الوقود. فإذا بالدولة التى انفصلت عن الاتحاد الأوروبى تملك البنزين والشاحنات ومحطات الوقود لكنها تفقد حلقة هامة جدا فى سلسلة الإمداد أدت إلى خلق صفوف من السيارات أمام محطات الوقود، وأدت إلى حالة من الشلل فى واحدة من أهم عواصم العالم.
***
من ارتفاع الطلب العالمى المحفّز بعودة النشاط الاقتصادى، وارتفاع أسعار مصادر الطاقة المختلفة كان لابد أن يحدث نوع من أثر التمرير pass through effect لمختلف السلع والخدمات خاصة التى يعتمد إنتاجها وتوزيعها بشكل كبير على المشتقات البترولية كمدخل إنتاج أو مصدر للطاقة أو وقود للنقل أو الحفظ والتخزين. أثر التمرير كان عنيفا فى السلع الزراعية والمواد الأساسية، والتشابكات الاقتصادية لسلاسل الإمداد وأنماط الاستهلاك تملك قدرة فائقة على تمرير التضخم بين مختلف أوجه النشاط الاقتصادى. فقطاع نقل البضائع مثلا ينقل عبء ارتفاع تكلفة الوقود إلى مشترى أو بائعى الفوسفات الخام (مثلا)، الأمر الذى يرفع من تكلفة طن الفوسفات المسلّم للعميل، وهو ينعكس كمدخل إنتاج لصناعة الأسمدة الفوسفاتية، فيرفع بدوره تكلفة زراعة الفدان من المحاصيل المستخدمة للسماد الفوسفاتى... وهكذا.
ومن المتوقع أن ترتفع معدلات التضخّم المسجّلة فى منطقة اليورو بمقدار 3.4% نهاية سبتمبر الماضى مقارنة بنحو 3% نهاية أغسطس، علما بأن المحفّز الأكبر لهذا التطور السريع هو توقّع ارتفاع أسعار منتجات الطاقة بنسبة تبلغ 17.4% مقارنة بنسبة 15.4% فى أغسطس الماضى. كذلك حذّر كبير الاقتصاديين ببنك إنجلترا من ارتفاع كبير فى معدلات التضخم يدوم لفترة أطول مما كان مرتقبا، وذلك كنتيجة مباشرة لارتفاع أسعار الخامات وفاتورة الطاقة بالنسبة للقطاعات الصناعية والخدمية.
أما الفيدرالى الأمريكى فيخلص من اجتماعات السياسات إلى أن أعضاء لجنة تحديد المعدلات rateــsetting committee قد توقعوا أن يبلغ معدل التضخم السنوى 4.2% بنهاية العام الجارى مقارنة بنحو 3.4% كانت متوقعة فى يونيو الماضى! ومع هذا فمن المرتقب أن تهدأ حدة التضخم السنوى بنهاية عام 2022 لما لا يزيد على 2.2% وفقا لذات اللجنة.
مع كل ما سبق فإن هناك حالة من الركود تلوح فى أفق كثير من الأسواق تراجع معها مؤشر مديرى المشتريات لعدد من البلاد ومنها مصر التى تراجعت فيها قيمة ذلك المؤشر فى سبتمبر الماضى إلى أدنى مستوى له منذ أربعة أشهر. سحب الركود التى تنذر بها شواهد عدة إذا ما رافقها ارتفاع معدلات التضخم فنحن بصدد داء اقتصادى عضال يسمى فى الأدبيات الاقتصادية بالركود التضخمى.
***
الحاجة إلى التشغيل السريع لمقابلة الطلب المتهافت على سلع بعينها واكبه زيادة الطلب على مصادر التمويل، الأمر الذى أدّى بالتأكيد إلى ارتفاع قيمة الديون سواء الحكومية أو الخاصة إلى مستويات مقلقة تناولنا جانبا من مخاطرها فى مقال الثلاثاء الماضى. وعلى خلفية بلوغ حجم الديون فى 2020 إلى ما يقرب من 356% من الناتج الإجمالى لدول العالم (وفقا لمعهد التمويل الدولى) فإن قدرة الدول على الإنتاج وتلبية الحاجات المجتمعية لسكانها أصبحت تعتمد بشكل كبير على مزيد من الاقتراض وبتكلفة كبيرة. وهنا حديث ذو شجون عن بلوغ حكومة الولايات المتحدة سقف الدين بقيمة تبلغ 28.5 تريليون دولار وإلى ارتباك الكونجرس الأمريكى فى التعامل مع هذا الأمر وتأخره فى اتخاذ قرار رفع سقف الدين إلى المستوى الذى يطالب به الديمقراطيون وهو 30 تريليون دولار، تماما كما حدث فى أعوام سابقة ومنها عام 2011 وكانت له تبعات خطيرة على مستوى الثقة استمرت لما بعد ذلك بسنوات.
هذه الحالة من الارتباك تنذر فى الأجل القريب برفع فى أسعار الفائدة على الدولار الأمريكى، وتأخر فى سداد الالتزامات الحكومية، ونكوص عن تمويل العديد من برامج الحماية الاجتماعية، واهتزاز الثقة فى أدوات الدين الأهم فى العالم والتى تتخذها الدول مكونا أصيلا فى احتياطياتها (وتحديدا أذون الخزانة الأمريكية)... وكل هذا يتوقع أن يترك ندوبا يصعب إحصاؤها اليوم فى جسد الاقتصاد العالمى. ولتفادى أزمات إغلاق الحكومة ومخاوف الإفلاس مرر مجلس الشيوخ الأمريكى بأغلبية ضعيفة (50 صوتا مقابل 48) قانونا يقضى برفع سقف الدين بمقدار 480 مليار دولار تكفى حتى ديسمبر القادم.
كل الأزمات والمخاطر السابقة وغيرها يدور بشأنها جدل متصل فى مختلف دول العالم فى المجالس النيابية والمنابر الحزبية والبرامج الحوارية وورش العمل والندوات وحتى عبر مواقع التواصل الاجتماعى... لكن الحوار الصحى يخرج منه كل طرف وقد استفاد من رؤية الطرف الآخر المختلف معه، وقد اكتسب موقعا أفضل ليرى جانبا جديدا للحقيقة كان محجوبا عنه، وتبقى طريقة تعامل السلطات النقدية والمالية مع تلك الأزمات مدار الجدل الأعظم فى هذا السياق. نصيحتى للمتحاورين فى مصر وخاصة فى مواقع التواصل الاجتماعى ألا تتحول انحيازاتهم فى مناقشة أى من تلك القضايا إلى اختلاف جوهرى فى العقيدة أو الانتماء، أو إلى اتهام طرف للآخر بأنه كافر بنعمة الوطن الآمن لمجرد أنه اعترض على رفع فاتورة البنزين! وهو أمر طبيعى وبشرى بل وله ما يبرره بالمنطق الاقتصادى البحت. فى بريطانيا العظمى يرى أحد وزراء الظل «تأميم» الشركات العاملة فى مجال الطاقة لحل الأزمة الراهنة التى تواجهها الدولة، ومع ذلك لم يتهمه أحد بما يشين. اختلاف الآراء والرؤى من الرحمات الربانية، والحقيقة التى ينشدها الناس تقع فى الغالب فى موقع وسط بين الأضداد.