عاد ترامب مرة أخرى إلى البيت الأبيض لتحمل عودته العديد من الدلالات والسيناريوهات الاقتصادية المحتملة. كانت انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة كاشفة عن رفض الأمريكيين للصوابية السياسية للديمقراطيين، كما كانت بمثابة احتجاج صاخب ضد مثالية اقتصادية زائفة، عكستها برامج انتخابية منمّقة لم يوافقها الواقع خلال فترة رئاسة بايدن - هاريس الحالية، ولم يشعر بها المواطنون فى أى من الملفات على الأرض. البرنامج الاقتصادى الديمقراطى الذى وقّع على تأييده ثلاثة وعشرون حائزا على جائزة نوبل فى الاقتصاد، لم يكد يعبر صناديق الانتخاب من أى باب سياسى، إذ خسر الديمقراطيون مقعد الرئاسة كما خسروا فرصة السيطرة على مجلس الشيوخ، ومازالت العيون معلّقة على مجلس النواب الذى يرجّح المراقبون خسارته هو الآخر لصالح الأغلبية الجمهورية.
من دلالات عودة ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة تنامى الرفض الأمريكى لتيارات المهاجرين، الذين كانت منافستهم على سوق العمل سبببا فى عدم مواكبة الأجور لأكبر موجة تضخمية تشهدها الولايات المتحدة منذ أربعة عقود. الأمر الذى تسبب فى زيادة شعور السكان بالفقر، فضلاً عن ضيق العديد من الولايات من نوعية المهاجرين غير الشرعيين الوافدين إلى البلاد، وما أشاعوه من فوضى أمنية تمكّنت حملة ترامب من اللعب على أوتارها بدهاء. كما تشير العودة التاريخية للرئيس المنتخب إلى رفض الناخبين للدور الأمريكى فى ملفات السياسة الدولية والعلاقات الخارجية التى كبدت المالية العامة الأمريكية بأعباء ثقال، وأدخلت العالم فى دوامة من الصراعات تغذيها مساعدات عسكرية أمريكية لأوكرانيا، ودعم غير مشروط لإسرائيل بحجة الانتصار لقيم مثالية مزعومة، لا تعكسها أبدا خسائر الأرواح والممتلكات على مختلف الجبهات!
كذلك تشير القوة التصويتية التى حملت ترامب إلى الحكم من جديد، وتوزيعها الجغرافى بين الولايات، إلى حصة معتبرة من التصويت العقابى ضد إدارة بايدن- هاريس المحمّلة بفاتورة 50 ألف روح أزهقتها آلة الحرب الغاشمة لإسرائيل، مدعومة بمساعدات عسكرية واقتصادية أمريكية ضخمة. المزاج اليمينى المتطرف لم يعد وحده إذن الحاكم فى اختيار رئيس البلاد كما كانت الحال فى انتخابات عام 2016، بل هى الواقعية السياسية والدروس المستفادة من الفشل والنفاق الديمقراطى، الذى لم يعد محتملاً حتى بين الأقليات التى يزعم الديمقراطيون حماية مصالحهم. كذلك من الدلالات الهامة لتلك الانتخابات تراجع مصداقية استطلاعات الرأى التى ربما تم تسييسها واستغلالها للتأثير على الناخبين، تماما كما تم ذلك من قبل فى عام 2016 لصالح هيلارى كلينتون، التى تلقّت بدورها هزيمة مشابهة لكامالا هاريس، رغم أن استطلاعات الرأى كانت ترجّح فوز المرشحتين أو تساوى فرصهما مع ترامب!. تراجع مصداقية مراكز استطلاع الرأى يشكك فى قيمتها وتأثيرها الاقتصادى فى مختلف الملفات، وليس فقط على صعيد الانتخابات.
• • •
من ناحية أخرى هناك العديد من السيناريوهات الاقتصادية التى ترسمها عودة ترامب إلى سدة الحكم، أهمها: مزيد من النكوص عن مسار العولمة، وتصاعد الحمائية التجارية والانكفاء حول الذات، والميل إلى توطين وإعادة تشكيل سلاسل التوريد بما يخدم مصالح محلية وإقليمية، خفض ضرائب الشركات وفرض الرسوم الجمركية المرتفعة، وانتشارها فى مختلف الدول إعمالا لمبدأ المعاملة بالمثل.. وذلك كله يؤدّى إلى مزيد من الموجات التضخمية والتى تنساب عبر عدد من قنوات العدوى المالية فى مقدمتها ارتفاع تكاليف إنتاج وتوريد السلع والخدمات وإتاحتها للمستهلك النهائى، وارتفاع قيمة الدولار الأمريكى كنتيجة مباشرة وطبيعية للحد من الواردات وتحسين ميزان التجارة الأمريكى خاصة مع الصين.
دولار أقوى نسبيا يعنى ارتفاع تكلفة الديون الخارجية على الدول الأكثر استدانة مثل مصر، كما يعنى ارتفاع تكاليف الاستيراد للدول التى لا غنى لها عن الاستيراد لتوفير مدخلات الإنتاج، وإشباع الطلب المحلى نتيجة انخفاض الإنتاج، الناشئ فى الأساس عن انخفاض الادخار المحلى والتكوين الرأسمالى. تأتى تلك التوقعات حول سعر صرف الدولار فى وقت ينتظر العالم دورة من التيسير النقدى بدأها الفيدرالى الأمريكى بالفعل منذ سبتمبر الماضى بخفض أسعار الفائدة بـ 50 نقطة أساس، وتبعها بخفض (أقل حدة) فى نوفمبر الجارى، على أمل أن تعود معدلات الفائدة إلى مستوياتها السابقة قرب الصفرية فى المدى المتوسط، لتعود معها آفاق وتوقعات النمو الاقتصادى والتشغيل فى الولايات المتحدة والعالم إلى مستويات مرضية.
التيسير النقدى يعنى دولار أضعف نسبيا، لكن أسواق المال والمعادن التى تمتلك رؤية استشراف ثاقبة للمستقبل اعتبرت فوز ترامب بفترة رئاسية جديدة مرجّحا لقوة الدولار على أى سيناريو لتراجع قيمته على خلفية موجة التيسير. رأينا ذلك فى ارتفاعات كبيرة لمؤشرات الأوراق المالية الأمريكية، وتراجعات عنيفة للذهب والأصول الصينية فى مختلف المحافظ. غير أن تلك التحركات لا تجزم بأن التيسير النقدى لن يؤدى إلى تراجع قيمة الدولار أمام العملات الرئيسية والأصول الأخرى، لكنها تعنى أن ذلك التراجع لن يكون بنفس القدر الذى كانت تتوقعه الأسواق لو أن الديمقراطيين استمروا فى السلطة.
كذلك من المنتظر أن نرى تراجعا فى ملفات التعامل مع أزمة تغير المناخ، ونكوصا أمريكيا جديدا من اتفاقية باريس، والتزامات الحد من الانبعاثات الضارة، وما عساه ينتج عن ذلك كله من تكاليف مادية كبيرة لارتفاع حرارة الأرض، وتلوث المياه، وزيادة الشح المائى.. فضلاً عن أضرار الأعاصير وموجات الجفاف وكثير من التقلبات المناخية ذات الفاتورة الاقتصادية الباهظة، ناهيك عن تكاليفها التى لا يمكن إحصاؤها على صعيد الخسائر فى الأرواح.
• • •
يرتبط بهذا الملف ملفات انتقال الطاقة، التى تعد من التحوّلات الكبرى فى هذا العقد، والتى ترسم خارطة مختلفة لمراكز القوى فى إمدادات الطاقة حول العالم. الانتقال الطاقى والتحوّل الكهربى لن يسيرا بذات الوتيرة التى توقّعها المراقبون فى غيبة ترامب، وهذا سيكون له عائد على دول الفائض النفطى (مثل دول الخليج العربى)، وتكلفة كبيرة على دول العجز، كما سيكون له ضرره المتوقع على حجم الاحتياطيات الكربونية التى يتوقع أن تستنفد بمعدلات متزايدة خلال تلك الفترة الرئاسية على الأقل، خاصة إذا امتد حكم الجمهوريين لما بعد ترامب. هذا الملف مرتبط أيضا بالعقوبات الاقتصادية على إيران والتى لم تكن مفعّلة إبان حكم بايدن، إذ سمحت بالنفط الإيرانى للتدفق عبر الأسواق لتعويض النقص فى إنتاج دول أوبك. هذا التدفق مهدد بالتوقّف نهائيا خاصة مع تأكيد ترامب على أن الانتعاش الاقتصادى الإيرانى كان سببا فى تمويل الجماعات المسلّحة فى المنطقة مثل حماس وحزب الله، وهو الأمر الذى أدى إلى أحداث السابع من أكتوبر وما تلاها (على حد زعمه). إذن من المتوقّع أن يضغط ترامب على مجموعة أوبك بلس لتعويض النقص فى المعروض العالمى الناشئ عن حظر النفط الإيرانى من ناحية، وعكس اتجاه تحوّل الطاقة من ناحية أخرى.
إذا نجح ترامب فيما وعد به أثناء حملته الانتخابية من تهدئة للصراع على جبهتى أوكرانيا - روسيا والشرق الأوسط بوساطة شخصية، فإن الوفورات الإيجابية لتوقّف المعارك وعودة تدفقات التجارة ورءوس الأموال إلى المنطقة وعبرها، يمكن أن تعوّض جانبا من الآثار السلبية للحمائية التجارية، والتراجع عن حماية الكوكب من الآثار المدمّرة لتغير المناخ. كما يمكن أن تكون الفترة الرئاسية القادمة أقل حدة وصادما من فترة ترامب الأولى، إذ إنها فترة أخيرة غير محمّلة بفواتير للسداد لجماعات المصالح وفى مقدمتها اللوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة، كما أنها تأتى برعاية فريق رئاسى مختلف، بدا خلال الحملة أنه أكثر رشدا وأقل شعبوية وعنصرية من الفريق السابق.