يمكن لأى شخص أن يكون قدوة للشباب ومصدرا لإلهامهم بمجرد أن يثبت كينونته، من خلال ما يحققه والكيفية التى يتصرف بها. لكن الأمر مختلف تماما عندما يقرر شخص ذو منزلة رفيعة التواصل مع الشباب بشكل مباشر، ولا يقوم بإلهامهم عن بعد، ولكن بشكل مباشر.
هذا هو سر امتنانى الشخصى لأحمد زويل. لن أتحدث عن الإنجازات العلمية التى مكنته من نيل جائزة نوبل، أو عن ما حاول القيام به بهدف دعم التعليم والأبحاث فى مصر. بالطبع، يستحق كل ذلك الكثير من الثناء ــ وأنا متأكدة بأن فى إمكان آخرين كثيرين الكتابة عنه.
إن تقديرى له شخصى، لأن علاقتى به كانت شخصية. لقد ألهمنى بهذه الطريقة.
عندما تكون شخصا مهتما بالعلوم ومهووسا بالمواضيع العلمية بعض الشىء، كما هو حال العديد من الأكاديميين، فإنك ستحلم بلقاء المشاهير من غير الرياضيين ونجوم البوب، بل العلماء والمؤلفين. وقد كان زويل، لكونه أول عالم مصرى يفوز بجائزة نوبل، مصدر إلهام للشباب المصريين. كان زويل كلما أتيحت له فرصة التحدث عبر شاشة التليفزيون أو فى محاضرات عامة، يقوم بذلك بتواضع مثير للإعجاب. وقد كان بصدد إلقاء محاضرة عندما كنت طالبة بكالوريوس فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة، وأتذكر قيام فاضل قصبجى (أحد أساتذتى، رحمه الله) بإعطائى دعوة لحضور حفل استقبال للشخصيات المهمة ــ ليس لأتمكن من لقاء زويل، بل لأننى كنت أبحث عن والدتى، وقد كانت هناك. وبذلك أتيحت لى فرصة لقائه وأسرته، وانتهى الأمر بالدردشة مع ابنته (والتى تحمل أيضا اسم مها) والحصول على توقيعه. لكن ذلك كان تواصلا عابرا.
***
تخرجت من الكلية فى فبراير 2001 وهى ذات السنة التى منح فيها أحمد زويل للمرة الأولى جائزة تحمل اسمه لخريج جديد. ولكونها الجائزة الأولى من نوعها، فقد ساهمنا، نحن المتقدمين لنيلها، فى تحديدها. وتم توضيح هدف الجائزة لنا باعتبارها جائزة تهدف إلى «الاعتراف بتكريم الجامعة الأمريكية فى القاهرة للخريجين الذين يبدون التزاما استثنائيا لمواصلة البحث العلمى والتأكيد على القيم الإنسانية». شجعنى أحد أساتذتى على التقديم، وهكذا فعلت. ومن أجل التقدم للجائزة، قام الطلاب بتقديم سيرهم الذاتية وكتابة مقال، والذى كان سيعرض للتحكيم من قبل لجنة مؤلفة من أعضاء هيئة التدريس.
أتذكر العمل على ذلك المقال، والذى ساعدنى فى التفكير فى ما كنت قد تعلمته طوال السنوات الأربع والنصف فى الكلية ــ وكيف جعلنى ذلك أربط بين ما درسته من خلال الفنون المتحررة، والمشاركة فى الأنشطة اللاصيفية، وشهادتى فى علم الكمبيوتر. لقد أسميت المقال عولمة العلوم. وقد كان المقال فى الواقع أفضل بكثير مما يبدو عليه العنوان الآن. فقد كان يتحدث عن حاجة الباحثين للتعاون الدولى والمتعدد التخصصات بهدف تحقيق تقدم ثورى بدلا من التقدم التدريجى. قدمت مقالى (كنسخة ورقية فى تلك الأيام) فى الوقت المناسب وانتظرت لمعرفة من سيتم اختياره ليتم الإعلان عن فوزه فى حفل التخرج.
فى يوم تخرجى، لم تتمكن جدتى من حضور الحفل وقد كنت مستاءة حقا، فقلت لها «لكن ألا تعرفين بأن أحمد زويل سيكون هناك؟»، فقالت لى «إذا ما حظيت بفرصة رؤيته عن قرب، أخبريه بأننى أبعث بتحياتى له».
أعلنوا عن الفائز بتلك الجائزة، وقد كنت أنا. نهضت وتقدمت لمصافحة أحمد زويل، وكنت مرتبكة للغاية. أكاد لا أتذكر شيئا من حديثنا باستثناء شيئين. فقد أخبرته بأن جدتى «تقول له مرحبا»، وقال لى هو «عقبال نوبل».
***
لم ينته الأمر عند هذا الحد. لم يقم زويل بمنحنا تلك الجائزة فقط ليتجاهلنا فيما بعد. فقد كان عضوا فى مجلس إدارة الجامعة الأمريكية فى القاهرة. وكان يحضر حفلات التخرج فى فبراير فى كثير من الأحيان، لكنه لم يحضر حفلات التخرج فى يونيو. ولذلك، لم يلتق الفائز الثانى بجائزته (الصديق العزيز خالد هراس، عضو هيئة التدريس فى جامعة كارنيجى ميلون الآن) . لذلك، عندما جاء زويل إلى مصر مرة أخرى، طلب لقائى أنا وخالد. وقد قام تيم سوليفان، العميد فى وقتها، وأحد أعز الأصدقاء والموجهين بالنسبة لى، والذى يظهر فى خلفية الصور التى جمعتنى بزويل يوم التخرج، باستضافة ذلك اللقاء. وكان زويل مهتما بمعرفة الكثير عنى وعن خالد، وعن شغفنا وطموحاتنا. وقد انتبه إلى عندما قلت مرحبا لجمعة (الذى كان يعمل فى مكتب رئيس الجامعة الأمريكية فى القاهرة والذى جاء ليسألنا إذا ما كنا نرغب فى شرب الشاى ــ وكنت قد تعرفت على جمعة لأننى سبق وكنت مدرسة متطوعة لمساعدة العاملين فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة الراغبين بتعلم اللغة الإنجليزية).
لم ينته الأمر عند ذلك أيضا. حيث يتوجب على أن أقول بأن اللقاء بزويل قد جعلنى أتساءل عن سبب عملى فى شركة، بدلا من السعى لتحقيق شغفى، والذى كان يتمثل فى التعليم. ولذلك كنت فخورة للغاية فى المرة القادمة التى جاء فيها لزيارة القاهرة وطلب مقابلتى، وقد حولت لممارسة مهنة التعليم.
فى آخر مرة رأيته فيها، دعانى مع حسين أبوبكر، آخر الفائزين بجائزته فى حينها، للمشاركة فى حوار (تم تسجيله لكنه لم يذع أبدا) مع المثقفين المصريين حول مستقبل التعليم فى مصر. لقد أذهلنى قيامه بدعوة شباب لحضور محادثة مثل تلك، وتوجيه الأسئلة لنا والاستماع بحق لإجاباتنا، وجعلنا نفكر بحق. كان لذلك اللقاء معه تأثيره الكبير على وعرضنى للاطلاع على تنوع الأصوات التى تفكر فى التعليم هنا واختلافهم فى وجهات النظر. وجعلنى أدرك بأنه وعلى الرغم من كون الكثير منا مهتم بعمق بمسألة التعليم وإصلاحه، فإن لكل منا منهج مختلف، وقد كان الحوار حول اختلافاتنا طريقة جيدة للمضى قدما.
كان ذلك الاجتماع قبل 10 أعوام، ولم يتم بثه عبر التلفزيون كما ذكرت. لكن تأثيره على ما زال قائما. أتذكر بأنه سألنى عن فكرتى بخصوص صراع الحضارات، ولم أكن قد سمعت بهنتنجتون فى حينها. لكن كان هنالك شىء فى قلبى، وكان ذلك يتمثل فى أن الأمر خيارنا الخاص فيما إذا كنا سنسمح لاختلافاتنا فى التفريق فيما بيننا، وأن نسمى ذلك صراعا، وأن نتخذ منهجا قدريا، وأن نكف عن المحاولة، أو أن يكون فى إمكاننا اختيار العمل من خلال اختلافاتنا، لنعثر على المتشابهات، وأن يكون لدينا أمل فى أن نجد طريقة لذلك يوما ما. كانت إجابة ساذجة. وأنا الآن أقل بساطة، لكن لا يزال لدى أمل بذلك. وسواء إذا ما تمكنت من تحقيق شىء عظيم كالذى حققه زويل أو لا، فإننى آمل بالاستمرار فى التعامل مع الشباب بشكل مباشر. ليس من خلال تدريسى وكتاباتى فحسب، ولكن من خلال الاستماع لهم وجعلهم يشعرون بالتقدير وأن هناك من يصغى لهم. وهذا هو ما تعلمته من أحمد زويل. إنه الآن فى مكان أفضل، لكن إرثه سيواصل العيش إلى الأبد.