الفرانكوفونية.. سياسة وثقافة وتعليم وتاريخ - أكرم السيسى - بوابة الشروق
الجمعة 20 ديسمبر 2024 7:42 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الفرانكوفونية.. سياسة وثقافة وتعليم وتاريخ

نشر فى : الخميس 12 سبتمبر 2024 - 7:05 م | آخر تحديث : الخميس 12 سبتمبر 2024 - 7:05 م

كان أول من أطلق مصطلح «الفرانكوفونية» (La Francophonie) فى عام 1880 الجُغرافى الفرنسى أونسيم روكولو Onésime Reclus ليصف به الأشخاص والبلاد المُستخدِمة للغة الفرنسية، والمعنى الحرفى لكلمة «فرانكوفون» هو الناطق باللغة الفرنسية، ويطلق المصطلح الآن على منظمة عالمية معروفة باسم المنظمة الدولية للدول والحكومات الناطقة باللغة الفرنسية كلغة رسمية أو كلغة منتشرة (Organisation internationale de la francophonie OIF)، وتتكون المنظمة من 56 دولة من بينها مصر، فضلًا عن 14 دولة لها صفة مراقب، فهى تُوازى منظمة «الكومنولث» التى تضم 53 دولة من مستعمرات بريطانية سابقة.

تأسست فى 20 مارس 1970، وصار يوما عالميا للاحتفال بالفرانكوفونية، وتم إحداث منصب الأمين العام للفرانكفونية عام 1997، وينتخب لمدة أربع سنوات، وتولى هذا المنصب الدكتور بطرس بطرس غالى (من 1997 إلى 2002) وزير الخارجية الأسبق والأمين العام الأسبق للأمم المتحدة الذى جلب مساعدات مالية وثقافية كبيرة لمصر، من أهمها الجريدة الأسبوعية «إبدو» المصرية الناطقة بالفرنسية، وخلفه فى هذا المنصب الرئيس السنغالى السابق عبدو ضيوف.

وتُشرف المنظمة ثقافيًا على عدة هيئات من أهمها اتحاد الجامعات الناطقة كليا أو جزئيا باللغة الفرنسية (الوكالة الجامعية الفرانكوفونية)، وجامعة سينغور فى الإسكندرية بمصر التى تأسست عام 1989، وقناة تى فى 5 موند (TV 5 Monde)...؛ كما أنها تؤكد مساندتها فى مجالات التنمية المستدامة، وتفعيل دور المرأة ومشاركتها فى الحياة العملية والسياسية فى العالم أجمع، وخاصة فى الدول الإفريقية التى كانت تستعمرها فرنسا، فقد لعبت اللغة الفرنسية دورا هامًا بين هذه الدول غير المتجاورة بكونها لغة تواصل، ونافذة هذه الدول على كل أنحاء العالم..

وتقوم فرنسا من خلال هذه المنظمة بمجموعة نشاطات لترويج اللغة الفرنسية، وتحظى مصر بجانب كبير من هذه المساعدات، فتحصل مصر على منح دراسية كثيرة كل عام، ومتنوعة فى كل التخصصات العلمية والإنسانية لطلاب الجامعات فى أقسام اللغة الفرنسية، وطلاب الدراسات العليا (معيدين ومدرسين مساعدين للحصول على الماجستير والدكتوراه)، وفى إعداد أبحاث ما بعد الدكتوراه، ويفوز بها الدارسون للغة الفرنسية سواء فى الجامعة أو فى مراحل التعليم قبل الجامعى (ثانوى وإعدادى)، وقد استطاع الكثير منهم الوصول إلى مناصب قيادية كبيرة فى الخارج وفى داخل الدولة، ومنها فترة سُمى فيها هؤلاء القياديون بأصحاب النادى الفرنسى.

•  •  •

فى سبيل تنمية هذه الأنشطة، وقَّعت الحكومة المصرية والوكالة الفرنسية للتنمية AFD)) فى عام 2020 اتفاقية شراكة تنص على مساندة فرنسا لبرامج تعليم اللغة الفرنسية بالمدارس الحكومية المصرية، من خلال مرافقة تطوير المناهج الدراسية للغة الفرنسية كإحدى اللغات الحية مع تطوير أنظمة تقييم المدرسين طبقًا لبرامج تدريبية لصالح 13 ألف معلم وموجِّه للغة الفرنسية بالمدارس الحكومية من أجل تدعيم كفاءاتهم المهنية.

بالفعل قدم الطرفان منهجًا جديدًا دعمًا لأنشطة التدريس لرفع مستوى المُعلين والطلاب، وتم أيضا الاتفاق على تدريس اللغة الفرنسية فى المرحلة الإعدادية كلغة ثانية، وكان من المفترض أن تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ ابتداء من العام الدراسى 2024/2025 لصالح ما يقرب من 3 ملايين طالب وطالبة يستفيدون من برامج تعليمية للغة الفرنسية بالمدارس الحكومية المصرية، ولكن فوجئ الجميع مع القرارات الجديدة لتطوير الثانوية العامة بإلغائها من المرحلة الإعدادية، وتهميشها من المرحلة الثانوية كلغة ثانية باعتبارها مادة نجاح ورسوب دون احتسابها فى المجموع، وهذا من شأنه التقليل من قيمة هذه المادة!

يبدو أن هذه القرارات - ضمن قرارات أخرى من ضم لمواد وحذف لمواد أخرى - اتخذت بنوايا طيبة من أجل محاربة الدروس الخصوصية، وتخفيف العبء عن الطلاب، إلا أن هذه القرارات كان يجب أن تُطرح على موائد حوار بين المتخصصين فى التعليم، ولا تؤخذ عُنوة دون نقاش فتُعرِّض البلاد والعباد لأضرار جسيمة.

•  •  •

فيما يخص اللغة الفرنسية تحديدًا كان يجب أن يُتداول أمرها بين وزارات التربية والتعليم، والتعليم العالى (أقسام اللغة الفرنسية فى كليات الآداب والتربية بالجامعات المصرية والأهلية والخاصة) ووزارة الثقافة، ووزارة الخارجية لأنها تمس اتفاقيات دولية مع منظمة الفرانكوفونية العالمية ودولة فرنسا التى تسهم بمساعداتها من أجل نشر اللغة الفرنسية وثقافتها بغرض دعم ثقلها السياسى والاقتصادى والثقافى فى هذه الدول.

من المعروف تاريخيًا أن فرنسا لها ثقل تنويرى كبير فى مصر، وذلك منذ الحملة الفرنسية عليها من عام 1798 إلى 1801م التى قام بها نابليون بونابرت، فرغم وجودها الاستعمارى لمدة ثلاث سنوات فقط إلا أن إسهاماتها الثقافية والعلمية والإدارية والقضائية.. كانت كبيرة جدا ومؤثرة فى مستقبل مصر والشعب المصرى، نذكر منها أهم الأعمال الكبرى التى قام بها علماء الحملة:

   •  إنشاء مجمع علمى على غرار المجمع العلمى الفرنسى فى باريس، ومهمته العمل على تقدُّم العلوم والمعارف فى مصر، ودراسة المسائل الطبيعية والصناعية والتاريخية ونشرها، وإبداء الرأى العلمى للحكومة فى المسائل التى تستشيره فيها؛ هكذا حاوَل نابليون العمل على ربط السياسة بالعلم.

   •  إنشاء مطبعة عربية وأخرى فرنسية.

   •  إصدار جريدتين فرنسيتين، إحداهما سياسية، والأخرى علمية اقتصادية.

   •  محاولة شق قناة تربط بين البحرين الأحمر والمتوسط، ولكنها لم تنجح بسبب خطأ فى حسابات مستوى مياه البحرين، ومن هنا جاءت فيما بعد فكرة حفر قناة السويس.

   •  تأليف كتاب «وصف مصر»، Description de l’Egypte: أول موسوعة عن مصر، وشملت رصدًا لكافة أوجه الأنشطة الحضارية المصرية القديمة والمعاصِرة للحملة.

   •  العثور على حجر رشيد، وهو ما مكّن شامبليون من قراءة الكتابة المصرية القديمة، ومن هنا استطاع المصريون والعالم التعرُّف على التاريخ المصرى القديم، وعليه أنشئ علم جديد سُمِّى فيما بعد بالإيجيبتولوجى Egyptologie.

•  •  •

بعد أربع سنوات من انتهاء الحملة الفرنسية على مصر، وفشلها فى تحقيق أهدافها الاستعمارية بفضل مقاومة المصريين، جاء فى 1805 حكم محمد على الذى استفاد من كل الأفكار الإدارية للحملة الفرنسية بإنشاء نظام الدواوين فى كل أنحاء البلاد، والاهتمام بالزراعة والصناعة، والعمل على الاعتماد على الطبقة الوسطى، وبناء دولة حديثة جعلته يفكر فى نظام البعثات التعليمية لتكوين كوادر علمية فى كل مناحى الحياة.

بدأ محمد على يرسل الطلبة المصريين فى 1813 إلى إيطاليا لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن والهندسة وغير ذلك من الفنون، ثم حول وجهته عام 1826 إلى فرنسا لتلقى العلوم والفنون الحربية، وكانت أول دفعة وأهمها تأثيرًا فى مصر برعاية وإشراف رفاعة رافع الطهطاوى الذى أنشأ فيما بعد مدرسة الألسن لتعليم الترجمة واللغات فى عام 1835، كما أوفد سنة 1847 إلى فرنسا طلبة من الأزهر الشريف لتلقى علم الحقوق، ومن هنا بدأ عصر التنوير فى مصر الذى أنتج لنا كوكبة من السياسيين والمفكرين والفلاسفة والأدباء والشعراء والباحثين وكلهم من الفرانكوفينيين، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:

من شيوخ الأزهر: محمد عبده ومحمد عبد الله دراز ومصطفى عبد الرازق وعبد الحليم محمود.. وآخرهم أحمد الطيب؛ وفى عالم السياسة: مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وقاسم أمين ومحمد حسين هيكل (المحامى) وبطرس بطرس غالى.. وفى القانون والآداب والفلسفة: زكى مبارك وأحمد لطفى السيد واسماعيل صبرى (شيخ الشعراء) وطه حسين وتوفيق الحكيم وعبد الرازق السنهورى (عملاق القانون) وعبد الرحمن بدوى وحسن حنفى وعبد الحميد مدكور (الأمين العام لمجمع اللغة العربية، والأمين العام لاتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية) وأمينة رشيد وأيمن فؤاد سيد (نقيب جمعية المؤرخين سابقًا فى مصر) وكريستين إسكندر (ممثلة الفرانكوفونية فى مصر) ورندا صبرى (صاحبة أكبر مشروع وطنى وعالمى لترجمة وثائق قناة السويس منذ نشأتها بعنوان «Le Mi-Lieu entre l’Orient et l’Occident» ويُقصد بها «قناة السويس.. المكان الرابط بين الشرق والغرب»..

هذا قليل من نتاج كبير لدور الفرانكوفونية فى مصر: تنوير وسياسة وثقافة وتعليم وتاريخ...!

أليس جديرا بنا أن نحافظ عليها ونعمل على تنميتها؟ 

أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات