«الوحش» فيلم مصرى من إنتاج عام 1954، ومن تأليف نجيب محفوظ، وإخراج صلاح أبو سيف، وسيناريو السيد بدير، وبطولة أنور وجدى وسامية جمال ومحمود المليجى وعباس فارس.. شارك الفيلم فى فعاليات مهرجان كان السينمائى، واحتل المركز السبعون فى قائمة أفضل مائة فيلم فى مئوية السينما المصرية.
تدور أحداث الفيلم حول سفاح مجرم فى إحدى القرى بصعيد مصر، يُدعى عبدالصبور (محمود المليجى) ومُلقب بالوحش، يخشاه الجميع بما فيهم رجال الشرطة لأنه يتمتع بحماية رضوان باشا (عباس فارس) الذى يَستخدم الوحش فى حمايته فى الانتخابات، ومُحاربة وقتل منافسيه!
يسعى عبدالصبور لشراء أراضى الفلاحين بأبخس الأثمان، ومن يرفض يحرق أرضه ويسمم مواشيه، وإن لم تُجدِ معه هذه الجرائم يخطف أبناءه، ويطلب فدية تفوق ثمن الأرض، وتلعب الراقصة نعسانة (ساميه جمال) دور عشيقة الوحش، وهى فى نفس الوقت زوجة المغلوب على أمره قرنى الزمار (محمد توفيق).
عيَّنَت الداخلية اليوزباشى رءوف صالح (أنور وجدى) معاونا للمباحث مُكلفا بالقبض على الوحش، والقضاء على عصابته، فتوجه إلى القرية مع أسرته، واستقبلته فى الطريق عصابة الوحش واستولوا على ملابسهم ومجوهرات زوجته، وقَيدوا معاون المباحث، ثم جاء الوحش عبدالصبور لإنقاذه بطريقة تمثيلية.
بدأ رءوف بجمع معلومات عن الوحش، وعلم أنه مدمن للأفيون وعشيق نعسانة، فأحكم قبضته على تجار الأفيون لغلق منابعه عن الوحش، واستغل قرنى فى الإيقاع به، وحينما قَبض المعاون عليه خلصته عصابته من بين يديه، وأصابوا الضابط فى كتفه برصاصة.
هرب الوحش، وأصبحت المواجهة بين الطرفين مكشوفة، حاول الوحش قتل المعاون فى المستشفى ولكنه فشل، بدأ الوحش فى سلسلة من الجرائم حتى يُحرِج المعاون، فارتكب أربعين حادثة فى أسبوع واحد، ما بين قتل وقطع طرق وخطف أطفال وطلب فدية وحرق محاصيل، وعندما عانى الوحش من قلة الأفيون الذى أحكم المعاون السيطرة عليه اضطر للنزول من الجبل والاختباء فى قصر الباشا رضوان الذى أحس بالخطر، فحاول النجاة بنفسه بإبلاغ البوليس فقتله الوحش.
أوعز الوحش إلى حجاب (عبدالغنى قمر) الذى يعمل أراجوزا فى القرية بخطف ابن معاون المباحث الطفل الصغير منير (سليمان الجندى) لمساومة أبيه، ونجح فى خطفه، وقيده فى مغارة الوحش بالجبل، واضطر المعاون لمقابلة الوحش أعزل فى محاولة لإنقاذ ابنه، فقَيَّده الوحش مع خادمه الفرماوى (عمر الجيزاوى)، ولكن المعاون تمكن من فك قيوده وإنقاذ ابنه، وطلب من الداخلية إرسال تعزيزات، والاستعانة بقوات الجيش لمنع الوحش وعصابته من العودة للجبل.
فى النهاية، نجحت الشرطة والجيش بمنع الوحش من العودة للجبل، فتوجَّه لقريته من جديد، ولكن أهلها ثاروا عليه وعلى عصابته، وخرجوا بالسلاح لمقاومته، وتمكن المعاون من القبض عليه وعلى عصابته، وقدمهم للمحاكمة.
• • •
كانت هذه قصة من خيال الأديب العالمى نجيب محفوظ، ومن إخراج رائد الرمزية صلاح أبو سيف، وهما لا يعلمان أن هذه القصة التى تحولت إلى فيلم سينمائى عام 1954 سوف تصبح حقيقة بعد سبعين عامًا، لا تنطبق رمزيتها على رجل مجرم من ساكنى الجبال فى صعيد مصر، ولكن ستدور أحداثها فى أكبر وأشهر قصر فى العالم هو البيت الأبيض، وشخصية «الوحش» هذه المرة لن تكون صعيدية، ولكنها ستصبح أمريكية!
نرى أن شخصية الوحشين - الصعيدى والأمريكى - متطابقة، كلاهما اتبع نفس المسيرة فى حياته، فالوحش الصعيدى كان يعتمد على حماية الباشا فى مقابل خدماته له فى الانتخابات تصل إلى قتل معارضيه، والوحش الأمريكى يستند على دعم رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو، ممثل القوى الصهيونية العالمية. كما أن كليهما لا يحترم القانون، ويعمل على اختراقه، يُهددان مُعارضيهما بعقوبات كثيرة، ويسعيان للاستيلاء على أراضى الغير بدون حق، ومن لا يوافق يُنذرانه بحرب ضروس أو «بالجحيم» حسب تعبير الرئيس ترامب كما جاء فى تصريحاته، فهو يطالب بضم كندا لتصبح الولاية رقم 51، وطالب باسترداد جزيرة جرينلاند فى الدنمارك، واستعادة قناة بنما البنمية، والسيطرة على خليج المكسيك وتسميته بخليج أمريكا، وهى نفس الطلبات التى أثارها خلال فترته الأولى!
هكذا بدأ الساكن الجديد للبيت الأبيض مسيرته، فى 29 يناير 2025، بعد أسبوع واحد من توليه منصبه، اتخذ قرارا غير مسبوق بعزل 12 مدعيا ممن شاركوا فى «ملاحقته قضائيا» فى القضايا التى واجهها قبل خوضه السباق الرئاسى الثانى الذى انتهى بفوزه، وبالتالى أُسقطت كل التهم المتعلقة بقضاياه: التحرّش الجنسى، والتهرب الضريبى، والاحتفاظ بوثائق مُصنفة «سرية للغاية» فى بيته الخاص، وتحريض مؤيديه للهجوم على الكابيتول..، جرائم ليس لها مثيل فى تاريخ رؤساء الولايات المتحدة!
لم يقتنع الرئيس الوحش بالمكاسب السابقة التى حققها بفضل فوزه بالرئاسة، ولم يكتف بالمجزرة القانونية للمدعين بوزارة العدل، والتى أسماها بعملية «تطهير كبرى»، وأصدر عفوا عن نحو 1500 من أنصاره الذين اقتحموا مبنى الكابيتول فى 6 يناير 2021، كما ألغى أمرا تنفيذيا أصدره بايدن بفرض عقوبات على مستوطنين إسرائيليين متورطين فى أعمال عنف بالضفة الغربية التى اعتبرت بأنها خطوة تتماشى مع سياسته لدعم إسرائيل المطلق!
وفضلا عن هذا، فقد وقّع ترامب بعد أسبوع واحد من قراره الأول (6 فبراير 2025) مرسوما يقضى بفرض عقوبات تستهدف أموالا شخصية وتأشيرات أفراد عائلات قضاة المحكمة الجنائية الدولية بخصوص مذكرة التوقيف الصادرة بحق رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو التى أدانته ووزير دفاعه المُقال يوآف جالانت، وأمرت بالقبض عليهما بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية فى الحرب ضد الفلسطينيين فى قطاع غزة!
هذا يكشف – من وجهة نظرنا - أن فوز ترامب فى 2016، وهزيمته أمام جو بايدن فى 2020، وكذلك عودته إلى الرئاسة فى 2024 لم تأتِ بإجراءات ديمقراطية نظيفة 100%، ولكن كانت وراءه أيادٍ خفية وقوية، يتحكم فيها المال الصهيونى؛ ففى الانتخابات الأولى 2016، لم يكن لترامب أى وجود فى عالم السياسة، فهو رجل أعمال ومقاول عقارات بامتياز، لم يكن متوقعًا أبدا أن يفوز، ولذا فإننا نعتقد أن الصهيونية العالمية اختارته بعناية وبإتقان شديدين، لأن مواصفاته الشخصية – المُتهورة والمُقَامِرة فى السياسة - ستساعدهم على تحقيق أهداف لا يستطيع أى سياسى واع أن يُقدم على اتخاذها، فهو رئيس من خارج الصندوق، وهذا هو المطلوب!
• • •
فى فترة الرئاسة الأولى، اتخذ قرارات مُخالفة تمامًا للشرعية الدولية، وضد التوجه العالمى كُليَّة، وضد العدل والمنطق، فى 6 ديسمبر 2017 اعترف رسميا بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقد شكّل هذا تحوّلًا بعيدًا لما يقرب من سبعة عقود من الحياد الأمريكى فى هذا الشأن الخطير. وفى 25 مارس 2018، أصدر مرسومًا رئاسيًا أعلن فيه «أن الولايات المتحدة تعترف بأن مرتفعات الجولان جزء من دولة إسرائيل». وفى 8 مايو 2018، أعلن رسميا خروج بلاده من «الاتفاق النووى» مع إيران، تلبية لرغبة إسرائيل. وفى 2019، أعلن انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، ومن اتفاقية باريس للمناخ فى 2020. كلها وبلا استثناء قرارات لا توصف إلا بالجنون السياسى!
لهذا نعتقد أن فى انتخابات 2020 لعبت قوى كبيرة ونافذة من داخل أمريكا دورًا قويًا ضد انتخاب ترامب للمرة الثانية، مدعومة من دول أوروبية تضررت من سياساته الدولية، خاصة فيما يتعلق بـ«صفقة إيران» باعتبارها اتفاقية دولية حول البرنامج النووى الإيرانى، تم التوصل إليها فى 2015 بين إيران ومجموعة 5+1 (الأعضاء الخمسة الدائمون فى مجلس الأمن: الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، بالإضافة إلى ألمانيا) والاتحاد الأوروبى، فكان لزامًا على الجميع العمل على إسقاطه، وقد حدث رغم تأكيد كل الاستطلاعات بفوز ترامب ضد بايدن!
كذلك فى الانتخابات الأخيرة التى فاز بها فى 2024، تعرض لمحاولتين للاغتيال، وهنا يمكننا أن نؤكد – حسب رؤيتنا - بأن الصهيونية العالمية لم تترك ترامب ليضيع منها هذه المرة، مثلما لم تتركه طوال فترة رئاسة بايدن، وحَمته من كل الاتهامات الخطيرة التى أُدين بها، فقد استوعبت ما حدث فى انتخابات 2020، فساندته ودعّمت مُناصريه، مما جعله واثقًا تمامًا من فوزه ضد منافسته كامالا هاريس، فكان داعمو ترامب يهددون المجتمع الأمريكى كله بحرب أهلية، ولعل تصريحات ترامب تؤيد هذا الطرح، فكان دائمًا يؤكد فوزه، وأن هزيمته تعنى أن الانتخابات زُوّرت، وأنه لن يسكت هذه المرة!
وما يؤكد نظريتنا اعترفات ميريام أديلسون حينما أعلنت أن ترامب نفَّذ كل ما طلبته منه حرفيًا فى رئاسته الأولى، فقد نفَّذ تعهده بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وانسحب من الاتفاق النووى الإيرانى، وحقق السلام مع عدد من الدول العربية، ولهذا فقد دعمت حملته الرئاسية الثانية بأكثر من مائة مليون دولار، فى مقابل تأييد الاستيطان الكامل للمستوطنات الإسرائيلية – مستقبلا - فى الضفة الغربية، ودعم حملات تهجير الشعب الفلسطينى من أراضيه؛ وقالت لصحيفة هاآرتس: هذا عهدنا مع كل من يدعم إسرائيل.
لا تُعتبر أديلسون حالة فردية، ولكنها ضمن منظومة كاملة حيث النفوذ ليس محكومًا بمؤسسات الدولة بل بأموال من يشترون التأثير السياسى لخدمة أجنداتهم، هكذا تُحسم القضايا الرئيسية داخل قاعات المراهنات، وليس داخل قاعات الكونجرس التى يعتقد الكثيرون أنها تتحكم فى سياسات الولايات المتحدة!
ولمن لا يعرف ميريام أديلسون، هى أحد صقور اللوبى الصهيونى فى أمريكا، وأغنى امرأة إسرائيلية فى العالم، وصاحبة جريدة «إسرائيل هيوم» اليومية الأكثر انتشارا فى إسرائيل (توزع مجانا)، وصديقة وداعمة ماديا لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذى اتُهم بإفادة استثماراتها، وتتولى الدفاع عنه فى قضايا الفساد المتهم بها؛ تبرعت لكل حملات ترامب الرئاسية، وتبرعت لصندوق دفاعه ضد تحقيق مولر فى التدخل الروسى فى حملته الانتخابية عام 2020، ومنحها ترامب وسام الحرية الرئاسى عام 2018، فهذا ثمن تبرعها بأكثر من مائة مليون دولار فى الانتخابات الأخيرة!
• • •
هذه وجهة نظرنا فى ظاهرة الرئيس القديم والجديد دونالد ترامب الذى صنعته واختارته بعناية فائقة ودعمته قوى الصهيونية العالمية خدمة لإسرائيل، فكل قراراته وتوجهاته توضح أنه رئيس وحش، ومن خارج الصندوق!