هناك شبه اتفاق على أن العديد من الدول الأقل نموا تعانى من المبالغة فى تقدير عملاتها الوطنية مقابل العملات الصعبة. لكن غالبية الدول تتردد فى اتخاذ خطوة تخفيض قيمة عملتها، حتى مع تعدد مظاهر المغالاة فى تقييمها، وذلك لأن عملية التخفيض تنطوى فى الغالب على مخاطر عدة أهمها:
أولا: ربما لن تؤدى عملية تخفيض قيمة العملة إلى تحسين ميزان مدفوعات الدولة الأقل نموا.
ثانيا: قد ينجح تخفيض قيمة العملة فى تحقيق أهدافه المباشرة ويقضى على السوق الموازية للنقد الأجنبى، لكنه عادة ما يطلق قوى اقتصادية معاكسة يمكن أن تقوض المكاسب المحتملة لعملية التخفيض من خلال انفلات التضخم وارتفاع نسب الفقر والبطالة.
ثالثا: يتحمل الساسة ومتخذو القرار تكلفة باهظة لتخفيض قيمة العملة الوطنية إذا ما تداعت لقرار التخفيض مظاهر الاضطراب الاجتماعى الذى تزيد مخاطره فى الدول الأقل نموا عندما ترتفع تكلفة المعيشة.
• • •
نظريا يؤدى تخفيض قيمة الجنيه المصرى أمام العملات الرئيسة وفى مقدمتها الدولار الأمريكى إلى زيادة الطلب على الصادرات وانخفاض الطلب على الواردات، الأمر الذى ينعكس بصورة مباشرة على تحسن ميزان المدفوعات المصرى من خلال تحسن ميزان المعاملات الجارية. يتم تلبية الزيادة فى الطلب على الصادرات من خلال مزيد من الإنتاج المحلى، ومزيد من التشغيل وخلق فرص العمل. أما فى الواقع العملى، فقد توصل الاقتصاديون من خلال تطبيق العديد من النماذج القياسية على حالات واقعية لتخفيض قيمة العملة بدول العجز، إلى أن ذلك التخفيض يؤدى إلى زيادة مؤقتة (على الأقل) فى وضع العجز بميزان المعاملات الجارية، فيما بات معروفا بنظرية منحنى جيه Jــcurve theory.
تقوم النظرية المذكورة على فكرة أن كميات وأسعار الاستيراد والتصدير غالبا ما يتم ترتيبها مسبقا فى تعاقدات طويلة الأجل. على سبيل المثال من المرجح أن يبرم مستورد للساعات عقدا مع شركة لإنتاج وبيع الساعات الأوروبية، موضوعه استيراد كمية محددة خلال فترة ما فى المستقبل. سيتم أيضا تحديد سعر الساعات وفقا لشروط العقد. يوفر هذا العقد ضمانات للمنتج بأن الساعات التى يصنعها سيتم بيعها، كما يوفر ضمانات للمستورد بأن سعر الساعات سيظل ثابتا طوال مدة العقد. بالطبع تتفاوت طبيعة ومدد العقود من صناعة إلى أخرى ومن شركة إلى أخرى، ولكنها عادة ما تمتد لمدة عام أو أكثر.
ما يترتب على تلك العقود هو أنه فى المدى القصير ستظل الأسعار المحلية وكميات الواردات والصادرات ثابتة للعديد من العناصر، ومع ذلك تسمح بعض العقود بإعادة التفاوض حول عدد من بنودها عند تغير ظروف السوق. ولحين تعديل تلك العقود وانتهاء مدة العقود الأخرى التى لم يكن ممكنا إعادة التفاوض حولها، فإن أثر تخفيض قيمة العملة الوطنية أمام عملات الاستيراد الرئيسة لا يكاد يحقق غايته فى الحد من الاستيراد أو تشجيع التصدير للسلع والخدمات فى الأجل ممتد بين سنة وسنة ونصف السنة.
يظل التغيير الوحيد الذى سوف يطرأ على معادلة حساب المعاملات الجارية فى الأجل القصير هو الزيادة فى سعر الواردات مقومة بالعملة الوطنية، وذلك بافتراض أن غالبية المستوردين لم يتحوطوا ضد تقلبات سعر الصرف المحتملة باستخدام العقود الآجلة وعقود الخيارات والعقود المستقبلية، لعدم شيوع استخدامها فى الدول الأقل نموا، وتعقيد آلية عملها بشكل عام. هذا الارتفاع فى قيمة الواردات يزيد من عجز ميزان المعاملات الجارية فى الأجل القصير ويبرر المرحلة الأولى من منحنى J. مع استمرار انخفاض قيمة العملة الوطنية، ومع بدء إعادة التفاوض على العقود، سيقوم المتعاملون بتعديل الكميات المطلوبة تباعا. نظرا لأن انخفاض قيمة العملة يتسبب فى زيادة تكلفة السلع والخدمات المستوردة على المقيمين فى الدولة المصْدرة لتلك العملة، فإن الكمية المستوردة من السلع والخدمات ستنخفض نسبيا. من ناحية أخرى، ستبدو السلع والخدمات المصدرة أرخص نسبيا للأجانب، ومع إعادة التفاوض على تعاقداتهم، سيتجهون إلى زيادة الطلب على صادرات دولة العملة المخفضة، وسوف تؤدى التغييرات فى تلك الكميات إلى تحسين وضع ميزان التجارة وميزان المعاملات الجارية ويرتفع رصيد تلك المعاملات لصالح تلك الدولة.
• • •
تجدر الإشارة هنا إلى أن مصر قد شهدت خروج ما قيمته نحو 1.19 مليار دولار من السندات الحكومية خلال ثلاثة أيام فقط، على خلفية تفجر الأزمة الروسية الأوكرانية وفقا لموقع ناسداك نقلا عن وكالة رويترز للأنباء فى 8 مارس 2022. هذا الخروج من أدوات الدين الحكومية لا يعكس بالضرورة تراجع قيمة الجنيه مقابل الدولار الأمريكى. خلال عملى سنوات طوال بالبورصة المصرية شاهدت كيف يتصرف المستثمر الأجنبى بشكل غير متوقع فى الأزمات الكبرى. فعند تفاقم الأزمات المالية يتجه المستثمرون الأجانب إلى التخلص من الأصول التى يملكونها فى الأسواق المستقرة التى تدر عائدا تنافسيا، وذلك لمواجهة التزامات عاجلة فى الأسواق الأخرى المتضررة بشدة. بتعبير أبسط يقوم المستثمر بتسييل محفظته الرابحة لسداد التزامات فى المحفظة الخاسرة، مثل حسابات الشراء بالهامش المفتوحة لصالح شركات الوساطة والتى هى بمثابة قرض للمستثمر يجب سداده.
وقد يكون المستثمر قد قام بحساب العائد المرتفع الذى يحصل عليه من السندات الحكومية المصرية وأذون الخزانة، ووجد أن تراجع قيمة الجنيه بات يأكل جانبا كبيرا من ذلك العائد، بما يجعل العائد الحقيقى أقل كثيرا من العائد الاسمى. فى هذه الحالة فإن المستثمر، صاحب الأموال الساخنة على وجه الخصوص، سوف يحاول تصفية استثماراته سريعا، تفاديا لمزيد من الانخفاض فى قيمة العملة الوطنية والذى لا يعكسه السعر الرسمى. إذا لجأ المستثمر إلى بيع سندات حكومية بالجنيه وعمد إلى تحويلها اليوم بالسعر الرسمى إلى دولارات فإنه يحقق مكاسب إضافية ناتجة عن تفاوت السعر الرسمى والسعر فى السوق الموازية (حال ظهوره). أما إذا انتظر لحين تخفيض قيمة الجنيه فإنه يفقد تلك الفرصة، لكنه لا يجد صعوبة فى تحويل أمواله بسعر السوق، وسوف يستمر فى الاستثمار فى مختلف الأصول المصرية وإصدارات الدين الجديدة نظرا لرخصها نسبيا عما كانت عليه قبل التخفيض.
وقد بدأت بالفعل حركة غير عادية فى البورصة المصرية عادة ما تنشط معها مشتريات أسهم مصرف بعينه حتى يتمكن المشترى من تحويل تلك الأسهم إلى شهادات إيداع دولية، ويقوم ببيعها فى لندن كوسيلة لخروج العملة. فإذا اتسع الفارق بين سعر سهم هذا المصرف فى السوق المصرية وسعر شهادات الإيداع الخاصة به ولم يلجأ المراجحون arbitrageurs إلى تحقيق التوازن بين السوقين من خلال الشراء فى السوق الأرخص نسبيا والبيع فى السوق الأغلى نسبيا (مع أخذ تكاليف التحويل والمعاملات فى الاعتبار) فهذا مؤشر آخر على الانخفاض الحقيقى لقيمة الجنيه أمام الدولار، وعلى الجهات المعنية التدخل بشكل عاجل لوقف هذا النزيف، وتحقيق مكاسب غير مبررة للمضاربين الأجانب على حساب سائر المتعاملين فى الأسواق.
• • •
سوق المال يمكن أن تحقق مكاسب فورية من تخفيض قيمة العملة المحلية، فالأسهم المتداولة فى البورصة المصرية يتم تداولها فى سوق حاضرة غير مرتبطة بتعاقدات طويلة الأجل، وهنا لا تنطبق نظرية المنحنى J سالفة الذكر. شخصيا لا أسيغ أن تستقبل سوق المال المصرية تخفيضا جديدا فى الجنيه المصرى قبل أن تكون مستعدة (فنيا وإداريا) للاستفادة هذه المرة من أى تخفيض. فقد ضاعت على مصر فرصة ذهبية لدى تحرير سعر الصرف فى نوفمبر 2016 وتدهورت المؤشرات على نحو ما سلفت الإشارة فى مقالات سابقة. وعموما أمام البنك المركزى العديد من قرارات السياسة النقدية التى يمكن أن يتخذها سريعا قبل الإقدام على تخفيض قيمة العملة، وفى مقدمتها رفع أسعار الفائدة على الأوعية الادخارية بالجنيه المصرى، وإعادة الحوافز على التنازل عن العملة الأجنبية على نحو ما تقدم فى السنوات التالية على التعويم. هذه الخطوات وغيرها يمكنها أن تقلل من حجم التخفيض المطلوب فى قيمة الجنيه، على أن سرعة الاستجابة لهذا النوع من الصدمات أمر لا غنى عنه حتى لا ترتفع تكلفة التعويم.