هناك دروس كثيرة يفترض أن نخرج بها من سلسلة المآسى والكوارث التى ضربت مصر فى الفترة الأخيرة، خصوصا حادث اصطدام قطارى سوهاج وانهيار عمارة جسر السويس والحرائق المختلفة فى أحد مولات الإسكندرية ونفق الزقازيق.
الدرس الأساسى الذى أظن أن علينا جميعا أن نركز عليه هو العنصر البشرى وتأهيله وتدريبه.
من دون هذا العنصر، فإنه للأسف كل ما سنفعله أو ننفقه لن يؤدى الغرض منه، مهما كانت النوايا سليمة.
الدولة والحكومة ووزارة النقل أنفقت مئات المليارات من الجنيهات على تطوير مرفق السكة الحديد. اشترت جرارات حديثة جدا وعربات أحدث، ثم أنفقت المليارات على تأهيل وميكنة ورقمنة جهاز الإشارات وكذلك المزلقانات.
كل ما سبق ممتاز وجيد وضرورى ولا يمكن تطوير السكة الحديد من دونه.
لكن تخيلوا أن نفعل كل ذلك، لكن العنصر البشرى غائب أو عاجز أو غير مؤهل أو غير مركز أو لا يفهم الحد الأدنى من متطلبات وظيفته.
تخيلوا أن يكون لدينا أحدث جرار وأحدث عربة قطار، وأحدث أنظمة لاسلكية واتصالات بين المحطات المختلفة، لكن السائق أو مساعده، مثلا ليس مهتما بهذه الأنظمة، أو غير مكترث. تخيلوا أن يكون لدينا كل هذا، لكن هذا السائق أو مساعده أو عامل الإشارة لم يرد على الاتصالات المتكررة التى تأتيه أثناء عمله، أو قبل وقوع الحادث.
النقطة الثانية أن الأنظمة الحديثة فى قيادة القطارات تحتاج إلى تدريب الناس عليها تدريبا كاملا مكتملا، لا أتحدث عن عقد دورات صورية، بل تدريب حقيقى أساسه أن يكون السائق ومساعده والعمال، ملمين تماما بالمنظومة ومقتنعين بها، لأن بعض السائقين يمكن أن يكونوا «على قديمه» وبالتالى يلجأون إلى وقف النظام الحديث، والعمل بطريقة القيادة التقليدية، خصوصا أنه فى الطريقة الثانية يمكن تعويض تأخيرات القطارات حيث إن النظام الحديث يلزم السائق بأن يسير على سرعات محددة.
هذا الموضوع ليس سهلا، لأنه يحتاج تغيير عقلية وثقافة وذهنية.
وللأسف فإن عددا كبيرا من العقول فى كل مكان يفضلون أن يسيروا على أقدامهم أو على ما يعرفون، ولا يحبون أن يجربوا الجديد.
هذه العقلية تشكل ما يشبه «اللوبى» الرافض لكل جديد أو حديث، وبالتالى نرجع مرة أخرى إلى أصل المشكلة، وهى التعليم الذى يفترض أن يتولى تأهيل كل هذه العقول، كى تكون قادرة على التعامل مع التكنولوجيا الحديثة. وهى لن تكون قادرة على ذلك من دون أن تكون تلقت تعليما راقيا ومتطورا مرتبطا بالعلوم والتكنولوجيا الحديثة، والأهم أن يجعل التلاميذ والطلاب يشغلون عقولهم، وهذا لن يحدث إلا فى بيئة تسمح بالتنوع والاختلاف والاحتكام إلى العلم والعقل، وليس إلى الخرافة والجهل والتطرف والصوت الواحد.
هذه العقلية الرافضة للتطور ليست مقصورة فقط على السكة الحديد، هى موجودة فى غالبية الوزارات والهيئات والمؤسسات والمصالح الحكومة، والعديد من المؤسسات الخاصة أيضا.
مرة اخرى بداية الإصلاح هى التعليم ثم التعليم، وبعدها تأتى منظومة القيم الحاكمة لتفكير وسلوك المجتمع.
تغيير هذه العقلية هو التحدى الأساسى، نستطيع أن نوفر التمويل ونشترى أحدث أنواع القطارات والجرارات والأجهزة، لكن الأصعب أن نغير العقلية لتصبح قادرة على التعامل مع متغيرات هذا العصر السريع والسؤال: كيف ننجح فى ذلك؟!
ملحوظة مهمة
هذا المقال كتبته بعد الحادث مباشرة، لكن ظروف مرضى ثم تلاحق تطورات قضية سد النهضة، لم تمكنِّى من نشره. وقررت ألا أنشره، باعتبار أن الحدث صار قديما.
لكن تقرير النيابة العامة عن الحادث، أكد صحة معظم ما جاء فى المقال، خصوصا الأكاذيب وتعاطى المخدرات والتزوير والادعاءات الباطلة التى وقع فيها كل المسئولين عن الحادث بما يعنى أن الإهمال يعشعش فى المنظومة بأكملها.
أرجو أن يقرأ كل من يهمه الأمر تقرير النيابة بعناية لأنه يدق ناقوس خطر كبير عن القيم السلبية وانعدام الكفاءة فى مجتمعنا.