لا تكف الوقاحة الإسرائيلية عن الكيد لمصر، ولا عن الترويج لأخبار ملفقة عنها، من خلال صحفيين ووسائل إعلام مقربين من رئيس الحكومة نتنياهو. من الأمثلة على هذه الوقاحة ما نشر من مواد صحفية، بإيعاز من مستشارين بمكتب نتنياهو، تعلى من قدر الدور القطرى فى الوساطة مع «حماس»، وتقلل، فى المقابل، من قدر الدور المصرى.
ومنها ما أورده، آفى يساخاروف فى يديعوت أحرونوت، عن فرية نشرها صحفى مقرب من نتنياهو، ومؤيدون آخرون له، تزعم أن رئيس الشاباك، رونين بار، اتصل فى السابع من أكتوبر بمسئولين مصريين اتصلوا بدورهم مع يحيى السنوار الذى ضللهما بشكل متعمد، وجعلهما يعتقدان أن حماس لا تنوى شن هجوم.
فى إطار الوقاحة نفسها، نشرت وسائل إعلام مقربة من نتنياهو، وصحفيون يعدون أبواقًا له، مرارًا وتكرارًا، تقارير عن إعدادات عسكرية مصرية مزعومة، لشن حرب ضد إسرائيل، عبارة عن صور وأفلام قديمة من أرشيف الجيش المصرى.
يخلص يساخاروف إلى القول: «لقد حاول من اهتم بنشر هذه الأخبار أن يضرب عصفورين بحجر واحد: القاهرة ورئيس الشاباك على حد سواء». وهو يرجح أن الصحفيين الذين نشروا هذه التقارير «جرى استخدامهم من قبل الثلاثى، آينهورن، وأوريخ وفيلدشتين» - مستشارين بمكتب نتنياهو متورطين فى قضية ما صار يُعرف باسم «قطر جيت» - ملمحًا إلى أن هناك من سعى لنشر أخبار كاذبة ضد مصر.
لم تقتصر حملة الوقاحة والكيد لمصر على المواد الصحفية، وإنما زاد حوار مريب فى الأسابيع الأخيرة على شبكات التواصل الاجتماعى، من جانب عناصر إسرائيلية مسئولة أيضًا، عن أن مصر تستعد لشن حرب ضد إسرائيل، مع نشر أفلام عن أرتال طويلة من مركبات عسكرية مصرية، وعن تهديدات مزعومة، ضد مفاعل «ديمونا».
• • •
يشير، ليؤور بن أرى، إلى أن خلفية هذه الأخبار الملفقة تتعلق برفض مصر قبول خطة دونالد ترامب لطرد سكان قطاع غزة وتوطينهم فى مصر. وقد فحص مشروع «فيك ريبورتر» المسألة ووجد أن الحوار بدأ بداية هذا العام، وأن وتيرته تزايدت فى الفترة الأخيرة، من جانب هيئات إعلامية يمينية، ومواقع إخبارية بديلة، ومؤثرين وصحفيين محسوبين على «آلة السم» (صفة تطلق على الأبواق اليمينية التى تأتمر بأمر نتنياهو وحاشيته).
يمكن تقسيم المواضيع الرئيسة التى ترددت فى الحوار عن مصر إلى: «تعاظم قوة الجيش المصرى»، و«اتفاق كامب ديفيد وهْم وخطر»، و«السياسة المصرية معادية لإسرائيل»، و«تأثير سيطرة مصر على الحدود».
لا تقتصر الوقاحة الإسرائيلية على ما يُنشر فى الصحف ووسائل التواصل الاجتماعى من حملات موجهة، وإنما تشمل الأكاديميين، أيضًا، إذ يشكك المؤرخ العسكرى الإسرائيلى دكتور ياجيل هنكين، المحاضر بكلية القيادة والأركان الإسرائيلية، فى النوايا التى دفعت مصر إلى إقامة سبعة أنفاق تحت قناة السويس، من أجل تنمية سيناء وربطها بالوادى، وفى بعض الخطط التنموية المصرية الأخرى، قائلًا: «ما يزال من الصعب العثور على سبب مدنى يبرر إقامة سبعة أنفاق مختلفة، قبل بناء بنية تحتية تستخدمها. يبدو جزء من (خطط) التنمية عسكريًا بشكل بارز».
يزعم، هنكين، أن صور الأقمار الصناعية تظهر أن مصر تبنى مستودعات ضخمة، تبدو عسكرية، بمنطقة القاهرة-السويس، ومحطات جديدة فوق مستوى الألوية بأماكن مختلفة بمصر، وتطور مطار المليز (بير جفجافة) فى سيناء تطويرًا ذا طبيعة عسكرية واضحة، ومستودعات ضخمة للوقود، بعضها مموه، تتجاوز حاجة السكان المدنيين فى سيناء أو فى محيطها، جزء منها بحجم يخدم جيشًا كاملًا، ومستودعات للذخيرة فى سيناء وقواعد بُنيت فيها دُشم جديدة، وأن هناك زيادة كبيرة فى حجم ناقلات الدبابات والقواعد المخصصة لتخزينها.
يتساءل هنكين، فى وقاحة: «لماذا تفعل مصر ذلك؟»، ويجيب: «الأمر ما يزال فى حاجة إلى تفسير. من شأن التعاظم العسكرى، فى حد ذاته، أن يكون علامة مقلقة. هناك أسباب عديدة لبناء القوة العسكرية، من بينها، الاستعداد لنشوب نزاع مع إسرائيل أو لإلغاء نزع سلاح سيناء. إنه يخلق وضعًا جديدًا يوجب على إسرائيل، بخاصة، أن تكون أكثر انتباهًا، نظرًا لأن قطاعات عريضة من المجتمع المصرى لم تسلم بوجود إسرائيل.
على إسرائيل أن تفتح عينًا حذرة على المتغيرات فى مصر وتبعاتها».
• • •
يشارك قدامى العسكريين الإسرائيليين، أيضًا، فى حملة التواقح على مصر، والتشكيك فى نواياها، من بينهم مجموعة تعرف باسم «الأمنيون». يقول أحدهم، شحر تسيترون: «منذ سنوات عديدة والجيش المصرى يمر بعمليات تحديث وبناء قوة، بما فى ذلك التزود بأسلحة عديدة ومتقدمة، وتطوير البنى التحتية. تخلق هذه العمليات إمكانية تهديد لدولة إسرائيل ولأمنها. يجب على الحكومة وهيئة الأمن الإسرائيلية أن يجريا فى نهاية الحرب (على غزة) نقاشًا استراتيجيًا حول موضوع مصر وفحص كيف يمكن الاستعداد فى مواجهة مثل هذه الإمكانية».
يمتد التواقح إلى مستوى المسئولين الرسميين، أيضًا. إذ نقل الصحفى، أرئيل كهنا، عن مسئول عسكرى إسرائيلى رفيع قوله: «إن دخول قوات عسكرية مصرية إلى سيناء بما يتجاوز الحصص التى اتفق عليها فى الملحق العسكرى لاتفاق السلام انتهاك مؤثر له»، مشيرًا إلى أن الانتهاك الأكبر يتمثل فى ما أسماه «خروق البنى التحتية، من أرصفة الموانئ التى كبرت، ومدارج المطارات التى جرى إطالتها وأنفاق تخزين الصواريخ التى حفرت فى سيناء، بالمخالفة لاتفاق السلام». وأوضح المصدر الأمنى الرفيع أن مصر «تمنع قوة المراقبين الدولية لاتفاقية السلام من دخول الأنفاق وفحصها، موضحا أن المسألة تحظى بأولوية قصوى على جدول أعمال وزير الدفاع، يسرائيل كاتس».
ويقدر مسئولون عسكريون إسرائيليون، بحسب يونى بن مناحيم، أن لمصر مصلحة فى إضعاف إسرائيل من الناحية العسكرية والسياسية، مع زيادة تبعيتها لها كوسيط بينها وبين حماس، وأن مسئولين سياسيين رفيعى المستوى ينادون بوجوب «ذبح الأبقار المقدسة» وإعادة فحص الفرضيات التى وجهت سياسة إسرائيل تجاه مصر فى العقود الأخيرة.
• • •
تأبى الوقاحة الإسرائيلية، فى واقع الأمر، أن تحوز مصر سلاحًا نوعيًا، أو أن يتزود جيشها بأسلحة حديثة، أو أن تطور بنيتها التحتية، أو أن يكون لها برامج تنمية فى سيناء. تريد الوقاحة الإسرائيلية أن تحتكر إسرائيل، وحدها، التفوق العسكرى، كمًا ونوعًا، بالمنطقة بأسرها. تثور وتغضب إذا تجرأ أحد وسأل عما بحوزتها من أسلحة نووية، أو كيميائية، أو بيولوجية. تريد، وحدها، أن تمتلك أسلحة الدمار الشامل بالمنطقة، يوجهها فى ذلك الخيار التوراتى «شمشون».
كلنا يتذكر كيف هاجت الوقاحة الإسرائيلية وماجت حين تعاقدت مصر على شراء أربع غواصات حديثة وسفينتين مضادتين للغواصات من ألمانيا، وكيف أعرب رئيسها السابق، رءوفين ريفلين، عن قلقه للمستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، من نية ألمانيا بيع غواصات حديثة لمصر، خلال زيارته لألمانيا عام 2015م. وهى صفقة عارضها، بالمناسبة، وزير الدفاع الإسرائيلى، فى حينه، موشيه يعلون، ومسئولون عسكريون آخرون.
تبلغ الوقاحة درجة التطاول على مصر وأرض مصر. إذ كثيرًا ما يصرح مسئولون إسرائيليون - وزراء وساسة - وإعلاميون وكتاب فى الشئون العامة، بضرورة طرد سكان قطاع غزة إلى الأراضى المصرية، وهى تصريحات لم ينفها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. يريدون إلحاق الضرر بالأمن القومى المصرى، وبالسيادة المصرية. من الأمثلة على ذلك، التخرصات التى تقيأها وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، واتهم فيها مصر بأنها «مسئولة مسئولية لا بأس بها» عن أحداث السابع من أكتوبر، وزعمه بأن مصر قد «سمحت، ولسنوات، من خلال غض الطرف، بتسليح حماس بهذا الشكل الجنونى، ومن ثم فإن تدخلها الوحيد فى مستقبل غزة سيتمثل فى أن تسمح لسكان القطاع بالمغادرة إليها وعبرها إلى دول أخرى».
تتهم الوقاحة الإسرائيلية بعض المؤسسات المصرية بعدم الانضباط. إذ يقول، ليئور بن أرى، ويؤاف زيتون، فى تقرير فى يديعوت أحرونوت، إن مسئولين غضوا الطرف عن آلاف عمليات التهريب للأسلحة، من فوق الأرض، فى شاحنات، من سيناء إلى قطاع غزة لصالح حماس على امتداد الـ14 عامًا الماضية.
لقد التزمت مصر باتفاقية السلام، وبالملحق الأمنى لها، فيما انتهكته إسرائيل. إذ تتضمن الاتفاقية ملحقا يتعلق بمنح حكم ذاتى للشعب الفلسطينى فى قطاع غزة والضفة الغربية، وهو بند لم ينفذ ذات يوم على الإطلاق. وأتاح بند فى الاتفاق وجودًا عسكريًا إسرائيليًا محدودًا من أربع كتائب مشاة، ليس أكثر من 4 آلاف جندى، فى المنطقة (D) مع تحصينات ميدانية محدودة، بدون دبابات، ولا مدفعية أو صواريخ، لكنها انتهكت هذا البند أيضًا خلال حربها على غزة، واحتلت محور صلاح الدين (فيلادلفى) بالمخالفة للملحق.
تريد الوقاحة الإسرائيلية إسكات كل صوت فى مصر يبدى تعاطفًا مع الشعب الفلسطينى. فهى تستنكر موقف الأزهر الشريف الداعم للمقاومة بوصفها حركة تحرر مشروعة، وتتهم الشركة المتحدة- بأنها أنتجت، فى شهر رمضان، مسلسلًا دراميًا معاديًا لإسرائيل. تريد الوقاحة الإسرائيلية أن تملى على مصر ومسئوليها وإعلامها وهيئاتها ومؤسساتها ما يجب أن يقال وما لا يجب أن يقال، والأهم، أنها لا تريد لجيش مصر أن يكون جيشًا قويًا، يتناسب مع مكانة مصر فى الإقليم.
أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة