نمت الهويّة القوميّة الكرديّة بشكلٍ كبير فى المشرق خلال الأزمنة الأخيرة. وربّما بشكلٍ أكبر من الهويّات الأخرى القوميّة منها أو المذهبيّة أو الوطنيّة. يرتبط هذا بكثيرٍ من العوامل، من بينها صعود الإسلام السياسيّ كهويّة كونيّة تخترق حدود الأوطان، تلك التى تأسّست فى نهايات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. أدّى ذلك الصعود إلى تنافس شديد بين الهويّة الفارسيّة والشيعيّة السياسيّة فى إيران منذ ثورة 1979، كما أدّى إلى إضعاف الهويّة التركيّة رغم كلّ إرث مصطفى كمال منذ أن فاز حزب العدالة والتنمية فى الانتخابات وأطلق من جديد مشاعر الهويّة العثمانيّة متقمّصةً لباسا تركيّا صرفا على عكس تاريخها.
وتزامن صعود الهويّة الكرديّة مع أفول الهويّة العربيّة منذ نكسة 1967 وخروج مصر طويلا من بوتقة القضايا العربيّة مع اتفاقيات كامب ديفيد وتعاظم هويّتها الانعزاليّة، ثمّ مع تعمّق الشرخ العربى بين الخليج الثريّ وحوض المتوسّط المتعّثر وانطلاق آليّات تصفية القضيّة الفلسطينيّة. هكذا تظهر المفارقة بين نموّ هويّة كرديّة عابرة عمليّا وفعليّا للدول القائمة وبين تقوقع هذه الدول حول هويّاتٍ خاصّة لم يبقَ فيها من عروبة سوى الشكل.
لا شكّ أن الهويّات والمشاعر القوميّة أو المذهبيّة جزء من الواقع والخصوصيّات التى لا بدّ من التعامل معهما بحكمة حتّى تحت مظلّة المواطنة المتساوية. وهذه الخصوصيّات تبرُز بقوّة أثناء الحروب الأهليّة كما هو الحال فى سوريا. ولكن التساؤل يبقى حول جدوى الحديث عن أقليّات، وهو مفهوم أُطلِق من قبل القوى التى استعمرت المنطقة، أو حتّى عن مكوّنات، أى أنّ كلّ الذين يأخذون بهذه الهويّات الخاصّة يشكّلون جسما اجتماعيا متجانسا بقدر ما أنّ «الأغلبيّة» متجانسة فرضيّا؟
***
هذا المدخل ضرورة للتفكير فى مآلات ما أدّت إليه الحرب فى سوريا فى الشمال الشرقى وما ظهر هناك من قوّة عسكريّة ناضلت ضدّ داعش، أى قوّات سوريا الديمقراطيّة (قسد)، ومؤسسّة تمثيلها السياسيّ، أى مجلس سوريا الديمقراطى (مسد)، ومن مؤسّسات تنفيذيّة، أى «الإدارة الذاتيّة» والمجالس المحليّة. وواضح للعيان أنّ عماد هذه المنظومة السياسيّة للمنطقة هو حزب الاتحاد الديمقراطى (PYD) وأيديولوجيّته.
يجب التأكيد أوّلا أنّ هذه المنظومة واقعٌ لا بدّ أن يكون لها مكان حقيقى فى المفاوضات السياسيّة القائمة حول مستقبل سوريا، وخاصّة حول الدستور. تركيا تناهضها ولكنّها تحت وصاية وحماية الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، وبعض هذه الدول فتحت لها مكاتب تمثيل فى بلادها واستقبلتها على مستويات عليا.
كما يجب على جميع الأطراف السوريّة، بما فيها «مسد»، أن تتمعّن مسبقا فى إمكانيّات التوافق بين هذه المنظومة ضمن أيّة منظومة دستوريّة سوريّة مقبلة يتقبّلها الجميع. فإن كانت هذه المنظومة ممكنة التطبيق فى منطقة تحتوى جزءا محدودا من سكّان سوريا فهل يمكن تطبيقها وقبولها فى مناطق الكثافة السكّانية الكبرى كالمدن الكبرى من حلب حتّى درعا مرورا بدمشق؟ مع التنويه أنّ هذه المناطق والمدن فيها تواجدٌ كبير للأكراد والعشائر والآشوريين والتركمان وغيرهم. وإذا افترضنا أنّ هذه المنظومة أساس للا مركزيّة سياسيّة عامّة فهل يُمكن التوافق على أن تهيمن «جبهة فتح الشام» (النصرة سابقا) على مناطق أخرى وتفرض منظومة تعتمد تفسيرا متطرّفا للشريعة؟! أم أنّ الحلّ هو إقرار خصوصيّة اللا مركزيّة فى هذه المنطقة دون غيرها على شاكلة «كردستان العراق» الذى تشكّل منذ زمنٍ طويل، ولكن هل يُمكن هذا الإقرار دون توافق وطنى شامل، ضمنه الكثير من الأكراد؟
هذا بمعزل أنّه لا يهمّ حقّا أن تضمّ منظومة مسد السياسيّة أفرادا ذوى هويّات متنوّعة بل المهمّ هو مدى صون هذه المنظومة للحريّات السياسيّة والاجتماعيّة بما فيها تلك «المعارضة» لها.
***
من ناحية أخرى لا بدّ من التساؤل حول جدوى الإفراط فى التوظيف فى الإدارة والمجالس المحليّة والتوجّه نحو اقتصاد يعتمد فى هذه المنطقة على «ريع النفط». ليس فقط لأنّ استدامة هذا الريع غير مضمونة على المدى الطويل كما فى العراق أو الخليج، بل لأنّ تبنّى هذا الاقتصاد يُفقِد هذه المنطقة إحدى ميّزات قوّة العمل فى سوريا أنّها ناشطة ولا تعتمد على الريع. لقد بقيَت سوريا تصدّر إلى دول الجوار الأثرى منها حتّى خلال الحرب. وعندما تضيع هذه الميّزة مع توظيف «حكومى» لأغلب قوّة العمل، ليس ممكنا العودة عن ذلك. كلّ هذا عدا ضرورة طرح التساؤل إذا ما كانت مياه منطقة الشمال الشرقى هى مياه كلّ سوريا أو مياه المنطقة وحدها، وكذلك بالنسبة للنفط والقمح وغير ذلك. وليس الأمر هنا فقط موضوع تقاسم الموارد وإنّما حماية كلّ منطقة من تقلّبات الأسعار العالميّة ومشاكل المناخ وسنين القحط... و«الرمال».
كذلك ما مهمّة «قسد» بعد القضاء على داعش فى منطقة الشمال الشرقي؟ هل هى فقط «تحرير عفرين» مع معرفة أنّ لا حلّ فى سوريا دون الوصول إلى توافق مع تركيا بدعمٍ دوليّ كى تنسحب من جميع المناطق التى وضعَتها تحت إدارتها؟ وهل تحرّرت بقيّة المناطق السوريّة من داعش والتنظيمات المتطرّفة الأخرى ولا دور فى قسد فى ذلك، بل تصطدم مع مجنّدى الجيش السوريّ فى حين يقاتلون داعش من طرفهم؟ وكيف يُمكن إيجاد توافق سوريّ ــ سوريّ دون أن تتشارك جميع الأطراف، بما فيها الجيش السورى وقسد وفصائل المعارضة المسلّحة المعتدلة جميعا، فى إنهاء المعركة على الإرهاب؟
***
لا يعنى كلّ ما سبق وضع كلّ المسئوليّة والعبء على منظومة الأمر الواقع السياسيّة والعسكريّة فى الشمال الشرقى. بل إنّ جميع الأطراف مدعوّة إلى التفكير فى مآلاتٍ مشابهة فيما أخذها واقع الحرب إليه، بإيجابيّاته وسلبيّاته، وفيما يجب أن يُبنى من أجل المستقبل.
وإلاّ ما الفائدة من إنشاء لجنة تفاوضيّة تحت رعاية الأمم المتحدة؟ وما الذى ستتفاوض عليه الأطراف عمليّا؟ كثيرٌ من النقاشات تجرى بحجّة التحضير لمثل هذه مفاوضات فى أروقة وندوات جانبيّة ترعاها دول منخرطة فى الصراع السوريّ. ولكنّ معظم النقاشات والأوراق التى تنتُج عنها تبقى على مستوى التعريف بفكر الآخر أو العموميّات.
سيأتى يومٌ ستتوافق فيه الدول الأساسيّة التى تتصارع بالوكالة على سوريا، وفيها، وحينها سيكون هناك دورٌ جوهريٌّ للإجابات عن التساؤلات حول منظومة الشمال الشرقى ومنظومة الدولة السوريّة وهيمنة سلطة استبداديّة عليها وما بقى من منظومات مناطق تواجد فصائل المعارضة العسكريّة. وسيكون المعيار حينها مدى التوافق الذى يرغب فيه جميع السوريين بين المواطنة المتساوية واحترام الهويّات الخاصّة.