اقتصاد الحرب بين الخوف والتحكم - مدحت نافع - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 11:58 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اقتصاد الحرب بين الخوف والتحكم

نشر فى : الإثنين 14 أكتوبر 2024 - 7:35 م | آخر تحديث : الإثنين 14 أكتوبر 2024 - 7:35 م

أثارت تصريحات للسيد رئيس الوزراء المصرى موجة من الجدل، حينما أشار إلى مخاوف مشروعة بأن تتصاعد حدة التوترات فى المنطقة إلى مستويات مقلقة، ربما تجبر الحكومة المصرية إلى اتخاذ بعض تدابير اقتصاد الحرب. وقبل الخوض فى هذا الطرح، علينا أولاً أن نوضّح أبرز معالم ما يعرف بـ«اقتصاد الحرب»، إذ تشير الأدبيات إلى أن هذا المصطلح بعيد كل البعد عن الإجماع، لكنه يشتمل على عدد من الخصائص التى تعكس دلالات مشتركة لتلك الحال التى تكون عليها الدول أثناء الحروب.
يقوم اقتصاد الحرب على إعادة هيكلة الاقتصاد الوطنى لخدمة المجهود الحربى والعمليات العسكرية، إذ تتضمن تلك التحوّلات عدة مكونات أساسية أولها: إعادة تخصيص عوامل الإنتاج، حيث يتم توجيه جزء كبير من القوى العاملة نحو الإنتاج والخدمات العسكرية. يشمل ذلك غالبًا التجنيد وتوظيف النساء والأقليات فى أدوار كانت تقليديًا يشغلها الرجال. وبالنسبة لرأس المال، يتم توجيه الاستثمارات بشكل كبير نحو الصناعات التى تنتج السلع العسكرية، مثل الأسلحة والمركبات والإمدادات الأخرى. كذلك يتم تخصيص المواد الأساسية مثل الحديد والصلب والألومنيوم والنفط للاستخدام العسكرى، مما يؤدى غالبا إلى نقص تلك الموارد فى الأسواق.
ثانيا، يقوم اقتصاد الحرب على تعزيز مبدأ سيطرة الحكومة، وهنا قد تنشأ الحاجة إلى التخطيط المركزى، الذى عادة ما تمارسه الحكومات من خلال مؤسسات مخصصة للإشراف على إنتاج وتوزيع الموارد.. من أمثلة ذلك: مجلس الإنتاج الحربى فى الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية.
ثالثا، قد تنشأ الحاجة إلى ضوابط للتسعير وتقنين مخصصات الغذاء والكساء، وذلك لمنع التضخم الجامح، وضمان التوزيع العادل للمواد الضرورية، إذ تفرض بعض الحكومات تسعيرة جبرية لبعض المنتجات، وتعمل على تقنين السلع الأساسية مثل الطعام والوقود والملابس فى صورة حصص لا يمكن تجاوزها. وقد تلجأ الحكومات إلى فرض نوع من التأمين الإجبارى على الممتلكات، بما يرفع من تكلفة الاقتناء لمختلف الأصول.
المظهر الرابع لما يعرف باقتصاد الحرب يتجلّى فى تنظيم الصناعات، إذ توضع الصناعات الحيوية، مثل صناعة الصلب والسيارات والكيماويات وبعض الصناعات الغذائية.. تحت سيطرة الحكومة المباشرة أو التنظيم الشديد لضمان تلبية احتياجات القوات المسلّحة.
خامسا تتغيّر أولويات التمويل لتتجه لخدمة المجهود الحربى عن طريق زيادة الضرائب بمختلف أنواعها وفئاتها، مع استحداث ضرائب جديدة خاصة بالحرب، والاقتراض عبر إصدار سندات الحرب، واللجوء إلى المصادر المحلية والدولية بغير سقوف، مع زيادة طباعة البنكنوت التى تغذى التضخم بشكل كبير.
التحوّل إلى اقتصاد الحرب لا ينعكس فقط على السياسات الاقتصادية الكلية المتبعة من الحكومات، لكنه يترك أيضا تأثيرات على الأسواق والمتغيرات الاقتصادية فى مختلف الآجال. بالنسبة لسوق العمل يمكن أن يؤدى الطلب على الوظائف غير المدنية إلى تفشى البطالة، وتشويه الأجور وأنماط التوظيف. وغالبا ما تسرّع الحرب من الابتكار التكنولوجى، حيث تسعى الدول للحصول على ميزة تنافسية فى الإنتاج الحربى. كذلك يمكن أن يؤدى التركيز على الإنتاج العسكرى إلى إهمال القطاعات الاقتصادية الأخرى، مما يسبب اختلالات هيكلية طويلة الأجل. يترك اقتصاد الحرب الدول غارقة فى الديون والتضخم وزيادة معدلات الفقر، فضلا عن التغيرات الاجتماعية الكبيرة التى تترك ندوبا غائرة يصعب التخلص منها عبر إعادة البناء وإعادة تشغيل الاقتصاد بتأهيل العسكريين للعمل المدنى..
• • •
حديثا، تم استدعاء مصطلح «اقتصاد الحرب» لأول مرة علنًا من قبل الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» بعد بضعة أشهر من بدء الحرب الروسية الأوكرانية، وذلك خلال خطاب ألقاه فى معرض الأسلحة Eurosatory فى 13 يونيو 2022. فى ذلك الخطاب أعلن الرئيس الفرنسى عن تقديم تدابير «اقتصاد الحرب» لمساعدة صناعة الدفاع الفرنسية على التكثيف فى أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا، بناءً على هدف ثلاثى الأبعاد يتمثل فى «إنتاج المزيد والأفضل والأسرع»، وقد تم تقسيم هذه التدابير إلى خمس ركائز أساسية هى: الرؤية، والتيسير، وتأمين سلاسل التوريد، والموارد البشرية، والوصول إلى التمويل.
لم تكد تمر ثلاثة أشهر على هذا الخطاب حتى أطلق وزير الدفاع الفرنسى أول ندوة حول «اقتصاد الحرب»، جمعت ممثلى شركات الدفاع الفرنسية، وأعضاء القوات المسلحة، والمديرية العامة للصناعات العسكرية، والجمعية العامة للصناعات العسكرية. وفى أعقاب تلك الندوة عُقدت عدة اجتماعات أسبوعية لخمس مجموعات عمل، تألفت من الصناعيين وممثلى وزارة الدفاع، وتناولت أفق «تحول التكنولوجيا العسكرية»، وقد استمر عمل بعض تلك المجموعات لما بعد إبريل 2023. وعلى الرغم من سرية محتوى النقاشات، فقد توصّلت بعض مجموعات العمل إلى مقترحات ملموسة، لا سيما بشأن إدارة المخزون، والمشتريات، والعلاقة بين المقاولين الرئيسيين والمقاولين من الباطن..
كذلك أدلى العديد من القادة الأوروبيين بتصريحات مختلفة حول الحاجة إلى إصلاح استراتيجيات الصناعة الدفاعية فى بلادهم منذ غزو روسيا لأوكرانيا. وإذ يتفق معظم الأوروبيين على إلحاح الموقف والتدابير الاستثنائية التى يتطلبها، فقد سلطت الحرب فى أوروبا الضوء على هشاشة النموذج الصناعى الأوروبى، داعية إلى إصلاحات من أجل تقديم قدر أكبر من الوضوح لشركات الدفاع، حتى تتمكن من زيادة إنتاجها من خلال الاستثمار فى أدوات الإنتاج الخاصة بها؛ وجعل سلاسل التوريد أكثر أمانا ومرونة، من خلال الحد من التبعية للخارج، ونقل الإنتاج، وإزالة الاختناقات، وبناء المخزون الاستراتيجى؛ فضلاً عن تحسين كفاءة المشتريات.
وإذا كانت فرنسا وسائر دول أوروبا بعيدة عن الاشتباك المباشر فى الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، فإن التزامات العضوية بحلف الناتو، ومتطلبات توازن القوى فى أوروبا فرضت قدرا من متطلبات الحرب بالوكالة. إذ تقوم العديد من دول أوروبا بتقديم المساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا، وتتحمّل جميعا التداعيات السلبية للحرب التى أثّرت على حركة التجارة وإمدادات الغاز الطبيعى الروسى إلى دول غرب أوروبا. هذا الوضع يشبه إلى حد ما وضع مصر فى القلب من الصراع المشتعل بالشرق الأوسط، منذ انطلاق عملية السابع من أكتوبر عام 2023. فقد تعرّضت مصالح مصر التجارية والخدمية ومصادر الدخل الأجنبى لكثير من الضربات بفعل ذلك الصراع. هذه إيرادات قناة السويس تتراجع فى ربع واحد بأكثر من 68%، وكذلك تفقد مصر الكثير من فرص نمو الإيرادات السياحية فى شبه جزيرة سيناء، والإمدادات الطاقية المتمثّلة فى الغاز الطبيعى الذى يأتى من الشرق بغرض أساسى هو التسييل وإعادة التصدير لأوروبا، مع تعويض النقص فى إمدادات الطاقة المحلية. وإذ لم تتورّط مصر بأية صورة فى عمليات التسليح أو الاشتباك (والحمد لله) فإن إدارة المخاطر تملى على الحكومة المصرية أن تتهيأ لمختلف الاحتمالات، على الرغم من حكمة السياسة الخارجية المصرية فى إدارة ملفاتها، لكن احتمالات التصعيد تأخذ فى الاعتبار الإدارة الأقل رشدا من قبل بعض اللاعبين الدوليين فى المنطقة وخارجها.
• • •
إذن لم يخطئ الدكتور مصطفى مدبولى فى تصريحه حول احتمالات إدارة ما يعرف باقتصاد الحرب، خاصة إذا نظرنا بعين فاحصة لخريطة المنطقة التى تكاد تغص ببؤر الصراع فى كل مكان. لكن الحديث عن اقتصاد الحرب بتدابيره آنفة الإشارة إذا حقق غايته من تجهيز المواطن المصرى لأسوأ السيناريوهات، فإن له تبعات سلبية على تدفقات الاستثمار وتراكم رءوس الأموال، وتحقيق معدلات نمو جيدة، وتحسين شروط التمويل، وتخفيض فاتورة الديون. ذلك لأن حديث الحرب يرفع من درجة عدم اليقين إلى مستويات تفرض على الدولة أن تعوّضها بمزيد من الفوائد وتكاليف التأمين على إصدارات الدين، ومزيد من التعهدات المكلّفة بحفظ أموال المستثمرين وحماية النشاط الاقتصادى. من هنا فقد وجب التنويه إلى أن سياسة مصر تقوم على التوازن والرشادة وتبنّى السلام كخيار استراتيجى.. وهى جميعا رسائل يجب أن تبثها الحكومة فى مختلف لقاءاتها ومؤتمراتها القادمة.

كاتب ومحلل اقتصادى

 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات