فى منتصف الطريق إلى مقصدك، يمكنه أن يدلك على انعطافة أو اثنتين، يمكنه أن يرشدك إلى استراحة تحت شجرة وارفة الظلال، أو سبيل تلتمس منه الماء، بل ويمكنه أن يمنحك شعورا غريبا زائفا بالوصول، فتستحيل غربتك ملاذا آمنا، وتحسب التيه رشدا وهداية، فقط كونك صدّقت الدليل! لكنه أبدا لن يصحبك طوال الرحلة، ولن يمنحك خارطة واضحة المعالم تعينك على بلوغ الهدف.
هذا هو علم الاقتصاد، يبحث فى الندرة، ونظام الثمن، وتوزيع الثروات، والعرض والطلب... يحلل الاتجاهات ويتنبأ بالمآلات لكنه فى ذلك كله يمتلك جانبا واحدا من الحقيقة لا غير، يصدق فى الأجل القصير أو الأجل الطويل ونادرا ما يصدق فى الأجلين معا. يساعدك التحليل الاقتصادى على فهم ظاهرة ما، يعطيك مفاتيح تفسيرها، يعزل الضوضاء ويفترض ثبات مختلف العوامل خلا عامل واحد، فترى بعين الفهم ماذا يحدث لو (...) ويغيب عنك ملايين الاحتمالات التى تغيّر من سلوك المبحوث إن وقعت على نحو معين. قدرتك على التعامل مع كل تلك الاحتمالات فى وقت واحد مستحيلة، مهما استعنت بوسائط التكنولوجيا الحديثة. عندها يدرك المستعين بالاقتصاد أنه قد يفهم الظاهرة، لكنه يعجز عن التصرف المناسب فى الوقت المناسب للتعامل مع تداعياتها.
***
كان العام 1929 كاشفا لعجز الاقتصاديين عن التنبؤ بأكبر كارثة اقتصادية حلّت بالكرة الأرضية! عشية الكساد الكبير احتفت كبرى الدوريات بانطلاقة غير مسبوقة فى أسواق المال. الثلاثاء 22 أكتوبر 1929 حملت جريدة The onion الأمريكية عنوانا عريضا فى صدر صفحتها الأولى يقول ما معناه: «البورصة لا تقهر...اشتر، اشتر، اشتر نصيحة الخبراء»! كانت نصيحة الخبراء حينها مؤسسة على دراسات وتحليلات علمية، لكن بذرة الكساد فى مختلف الأسواق ظلت تنمو بعيدة عن أعينهم، أو قل بعيدة عن باحة تقبّلهم للمصير المحتوم. كان الاقتصاديون ولا يزال حكماؤهم قد فطنوا إلى شعرة دقيقة بين الكشف عن الأزمة وصناعتها. التنبؤ بالكساد يصنع الكساد أو يعجل به على أقل تقدير. التنبؤ بإفلاس البنوك يدفع الناس دفعا إلى أبواب المصارف، لسحب مدخراتهم فتفلس فورا دون إمهال. يقول أستاذ الاقتصاد الذى حاضرنا فى صندوق النقد الدولى، إذا رأيت الناس يهرعون نحو البنوك لسحب مدخراتهم، فلا تبطئ الخطى بل اسبقهم إلى هذا وإن كنت تدرك أنهم مخطئون، ذلك أنك لو احتفظت برشدك فى وادى الجنون، فلن يبقى فى حسابك بالبنك شىء لتسحبه غدا.
النبوءة المحققة لذاتها هى أكثر ما يخيف الساسة من معشر الاقتصاديين، والتواطؤ العام على إغفال المخاطر هو أكثر ما يخيف المواطنين منهم. كان التواطؤ على إغفال مخاطر المنتجات المالية الصادرة بضمان التمويل العقارى بالسوق الأمريكية، هو ما فجّر أزمة الرهن العقارىsubprime crisis عام 2007 فاعتُبِر القلة المراهنون على انهيار تلك المنتجات بمثابة مخابيل، حتى وإن صدق تحليلهم لهشاشة الأسواق، لأنهم ببساطة لن يصمدوا أمام حقيقة موازية مفبركة بإتقان، صنعتها كبرى بنوك الاستثمار ومؤسسات التصنيف الائتمانى تقول: إن الرهون العقارية مضمونة بالأصول، وإن تعثّر بعض المدينين عن السداد لن يضعف هذا من تصنيف محفظة الديون أو تلك المحافظ المتتالية التى اشتقت منها وورثت عنها مخاطر مضاعفة، بل على العكس من ذلك، فقد أصرّت المؤسسات على تحدّى هواجس الفقاعة، مع منح تلك المنتجات المالية أعلى تصنيف ائتمانى متاح!.
بين عدد غير معلوم من الاحتمالات التى كان من الممكن أن تسلكها مسارات أزمة الرهن العقارى، فإن واحدا من الاحتمالات الأقبح هو الذى وقع بالفعل، وانهارت الأسواق شرقا وغربا فى أثر يشبه أثر قطعة الدومينو إذ تتهاوى لسقطتها سائر القطع. لولا الاقتصاديون لما وجد الناس حلا للأزمة، وربما لولاهم ما وقعت الأزمة من البداية. كان الاقتصادى الإنجليزى الأشهر فى عصره «جون ماينرد كينز» حاضرا ليضع حلا لأزمة الكساد الكبير، وكان الاقتصادى «بن برنانكى» رئيس مجلس الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى على رأس فريق انتحارى لاستيعاب الصدمات الأولى لأزمة 2007/2008 على نحو ساهم فى عدم تطوّرها لما هو أبشع.
لكن أين كان «كينز» و«برنانكى» قبل انفجار الفقاعتين؟ لماذا لم يتدخلا فى وقت سابق لقراءة وتحليل نبوءات المتشائمين، ووضع روشتة علاج للاقتصاد قبل أن يفقد الملايين وظائفهم؟ يمتلك البشر قدرة هائلة على التبرير، ومن الجائز أن يعطيك الاقتصادى إجابة تحتمل أكثر من معنى متناقض فى ذات الوقت. لا تعجب إذا قرأت تصريحا لـ«كينز» يقول فيه إنه كان يحذّر المسئولين على استحياء، ويخشى أن يخرج بالحقيقة كاملة إلى العلن فيصنع الأزمة بدلا من مجرد كشفها. هذا هو شأن دليلك الاقتصادى فى كل منعطف، يقول لك الزم اليمين للوصول إلى أول الشارع. تعرف ويعرف الجميع أن اليسار أيضا سوف يوصلك، اختيار اليمين هو أقصر الطرق فيما أتيح لك من معلومات، وهو الذى انحاز له الناس حتى يكاد اليسار يظهر خاليا من المارة. ما ينتظرك فى مفترق الطرق هو فى حكم الغيب، لن تطّلع عليه حتى تبلغه وتقع فى براثنه. كل نماذج الاقتصاديين فشلت فى اكتشاف الكوارث، وإن نجحت فى تحقيق بعض الثروات والمكاسب لبعض الناس فيما بين أزمتين.
***
ما سبق ليس عيبا فى علم الاقتصاد خاصة، كونه علما اجتماعيا لا تحكمه قواعد المعمّل المنضبط. بل هو نقيصة كل علم بشرى، لا يصح تنظيره إلا بصحة فروضه. حسبك فى العلوم الاجتماعية تضع الكثير من المفروض والقيود، ولا تعرف فى النهاية كيف يعمل العقل، وماذا يتحكم فى النفس والسلوك. يخطئ الطبيب ويصيب، خطأ الطبيب يعرضك للمرض والهلكة، خطأ المعمار يقتل ويدمر، خطأ كل ذى علم له مخاطره المخيفة. كذلك يخطئ الاقتصاديون، بيد أنهم لا يعترفون بالخطأ إلا من رحم ربى، فى كل تفصيلة ألف مخرج يبرئ به محلل الاقتصاد ساحته ويخلى مسئوليته. «نعم قلت لك اشتر فى البورصة اليوم لكنك لم تفعل وانتظرت لليوم التالى، حتى اختلفت توازنات السوق وضاعت فرصة الشراء»! «صحيح قلت لك إن الرهون العقارية جيدة ومضمونة، لكن مؤسسة ما أخفت عنى بيانات التعثّر ومدى انتشارها على خلفية فقد الوظائف»... إلى غير ذلك من أعذار. يقول خبراء إدارة المخاطر: كل شىء يدعو إلى التفاؤل حتى تقع الأزمة... تعدد محددات الأزمة يميع المسئولية، ويخفى قدرا هائلا من التفاصيل.
فى أعقاب كل أزمة تنتصر المؤسسات، تشملها خطة الإنقاذ أولا حتى تستمر فى تدوير المنظومة. مسألة تورّط المؤسسات فى صناعة الأزمة تظل هامشية لا تؤثر فى قرارات احتوائها. ينشأ بالطبع خطر أخلاقى، لأن صانع المشكلة يعرف مسبقا أنه سوف ينجو بلا أية عواقب، النظام لا يحتمل أن تسقط المؤسسات، قيل عن «ليمان براذرز» وأخواتها أنها «أكبر من أن تفشل» too big to fail... يمكن أن يقدّم شخص أو أكثر من داخل تلك المؤسسات على مذبح التكفير عن خطاياها، ولحفظ ماء الوجه أمام الجماهير الغاضبة، لكن المنظومة قدّر لها أن تستمر بأية تكلفة، يقود المنظومة اقتصاديون يحصلون على ملايين الدولارات.
***
العالم لا يعرف بديلا ناجعا للدائرة الكبرى المحيطة بالاقتصاد، فقد تم رسمها بعد محاولات عدة فاشلة، ومعارك فلسفية ومادية حسمت جميعها لصالح اقتصاد السوق. يجوز أن يغيّر أصحاب القرار من هيئة وحركة الدوائر والتروس الأصغر فى منظومة الاقتصاد، دون مساس بما توافق عليه الجميع فى عقد اجتماعى افتراضى وقّعه الفقراء قبل الأغنياء، ذلك لأنهم سقطوا عبر عقود ضحية لبدائل حالمة أدواتها قمعية لا تميّز بين غنى وفقير.