تزامنا مع مرور ٧٤ عاما على إنشاء حلف شمال الأطلنطى (ناتو)، انضمت فنلندا إلى عضوية الأخير لتصبح العضو رقم ٣١ من أصل ٢٩ دولة أوروبية، وعضوان من أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا)، لتنهى بذلك فنلندا سياسة الحياد فى سياستها الخارجية وهى السياسة التى اتبعتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الأسبوع الماضى!
لم يكن الانضمام الفنلندى إلى حلف الناتو مباغتا، فمنذ عام ١٩٩٧ تتمتع الدولة ذات الخمسة ملايين ونصف المليون نسمة والتى تمتد حدودها مع روسيا بمسافة تقترب من ١٤٠٠ كم مربع بعضوية برنامج «الشراكة من أجل السلام»، وهو أحد أهم برامج التعاون العسكرى والتكنولوجى والسياسى بين الناتو وجيرانه غير الأعضاء والذى بدأ فى عام ١٩٩٤ ويضم فى عضويته حاليا ١٩ دولة (بعد أن أصبحت فنلندا عضوا كاملا فى الناتو)، وفى مقدمة هذه الدول روسيا والسويد وسويسرا! ولكن وبعد الغزو الروسى لأوكرانيا فى فبراير من العام الماضى، فقد سعت فنلندا إلى الانضمام من خلال توقيع بروتوكول العضوية فى يوليو ٢٠٢٢، وهو البروتوكول الذى وافقت عليه ٢٨ دولة أوروبية فى سبتمبر ٢٠٢٢، ثم أخيرا وقعت عليه كل من تركيا والمجر بعد بعض التردد والمساومات لتنضم فنلندا بشكل رسمى إلى التحالف العسكرى الأقوى فى العالم. لم يكن انضمام فنلندا مثيرا فقط لإنهاء سياسة الحياد الأوروبى، ولكن أيضا لأن انضمام فنلندا لم يقترن بأى اشتراطات نووية، عكس النرويج والدنمارك مثلا اللتين اشترطتا عند الانضمام للناتو عدم نشر أسلحة نووية على أراضيهما!
وهكذا ورغم الكثير من الجدل فى الداخل الفنلندى حول مسألة عضوية الناتو، وهو الجدل الذى بدأ بعد انهيار الاتحاد السوفيتى فى ١٩٩١ وشكل مادة خصبة للتجاذب السياسى الداخلى بين أحزاب الحكم والمعارضة، إلا أن غزو أوكرانيا قد حسم هذا الجدل وخصوصا بعد أن أظهرت استطلاعات الرأى أن ما يقرب من ٨٠٪ من الشعب الفنلندى يوافق على الانضمام بعد أن كانت النسب لا تتجاوز ٣٠٪ قبل الغزو!
• • •
انضمام فنلندا إلى الناتو، طرح سؤالين على من يهتم ويدرس النظام الدولى، السؤال الأول حول مستقبل حلف الشمال الأطلسى بعد هذا الانضمام وما إذا كان ذلك بداية لانضمام المزيد من الأعضاء فى المستقبل، أما السؤال الثانى حول ما إذا كان ذلك الانضمام يعنى إضعاف الموقف الروسى والضغط على الصين الحليف الأبرز لموسكو، أم أن هذا التوسع يعنى انجرار النظام الدولى نحو المزيد من العسكرة.
منذ إنشائه فى 1949 بعضوية ١٢ دولة، توسع الناتو بشكل أفقى ورأسى بشكل دائم وناجح ليشكل أحد أهم التحالفات العسكرية فى العالم. ومع نهاية الحرب الباردة وتفكك حلف وارسو، وهو المقابل العسكرى للكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتى، فإن الناتو قد تمكن ليس فقط من المحافظة على وجوده، ولكن من تعميق هذا الوجود. فمثل الاتحاد الأوروبى، الناتو لديه اشتراطات سياسية واقتصادية لعضويته، ولكن وقبل انتهاء الحرب الباردة، فإن الناتو تساهل فى بعض شروط العضوية أو استمرارها وبقى المعيار الأهم فى الانضمام لعضويته هو معيار جيو استراتيجى. بعبارة أخرى، فإن اشتراطات السيطرة المدنية الديموقراطية على الجيش والتى هى واحدة من أهم معايير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى كما هى فى حالة الناتو، كانت يطبقها الأخير بشكل مرن حيث كان ــ ولايزال ــ مؤسسة براجماتية شديدة الواقعية حول أهدافها، ومن هنا فتركيا التى عانت كثيرا حتى تنضم إلى الاتحاد الأوروبى كانت من أوائل المنضمين إلى حلف الناتو لدورها الاستراتيجى فى احتواء المد السوفيتى!
كان التحول الأهم فى عضوية الناتو بعد انهيار الاتحاد السوفيتى حيث انضمت الكثير من دول الكتلة الشرقية التى سبق لها عضوية حلف وارسو، بل وحتى روسيا نفسها دخلت فى اتفاقية الشراكة المشار إليها أعلاه، كما تمكن الناتو من توسيع نطاق تحالفاته مع الدول غير الأعضاء فبالإضافة إلى اتفاقية «الشراكة من أجل السلام»، هناك أيضا مجلس الشراكة الأوروبى ــ الأطلسى، والحوار المتوسطى للناتو، ومبادرة تعاون اسطنبول، و«شركاء عبر العالم» وغيرها من برامج التنسيق والشراكة بين الناتو والدول غير الأعضاء.
ثم جاءت لحظة غزو روسيا لأوكرانيا فى ٢٠٢٢ لتشكل نقطة تحول ثانية، فبالرغم من تردد الناتو فى قبول عضوية أوكرانيا لأن ذلك القرار يعنى انزلاقها مباشرة فى الحرب ضد روسيا، إلا أن هناك دولتين على الأقل من المنتظر ضمهما خلال الشهور القليلة القادمة وهما السويد والبوسنة. فالسويد التى تقدمت لعضوية الناتو فى مايو الماضى بعد أن تغير الرأى العام هناك أيضا مطالبا بضرورة الانضمام إلى الحلف بعد الغزو الروسى، تعانى من الحصول على موافقة تركيا لانضمامها، كما تواجه بعض المساومات من المجر. ورغم أن السويد قد فتحت باب المفاوضات مع تركيا وعبرت عن استعدادها لتغيير بعض قوانينها بخصوص مكافحة الإرهاب وذلك إرضاء للجانب التركى الذى ينتقد الملف السويدى فى دعم واستضافة بعض العناصر الكردية المناوئة لنظام أردوغان، إلا أن حادثة حرق القرآن الكريم أمام السفارة التركية بالسويد فى يناير الماضى قد جمدت المفاوضات بين الطرفين بخصوص الانضمام لعضوية الناتو، وفى المقابل فإن الجانب التركى قد قبل أخيرا بعضوية فنلندا لكن ضغوط الناتو على تركيا قد تغير موقف الأخيرة بحلول الصيف بحسب بعض التوقعات وخاصة بعد أن أكد الرئيس الأمريكى بايدن تأييده لانضمام السويد بلا تأخير مطالبا الجانبين التركى والمجرى بقبول عضوية السويد فى أسرع وقت!
أما بخصوص البوسنة فإن رغبتها تعود إلى ما قبل الحرب الأوكرانية حينما سعت لعضوية الناتو فى ٢٠٠٨، ولكن ورغم العديد من العراقيل التى تواجه البوسنة إلا أن هناك توقعات مشابهة بقبول العضوية فى الصيف القادم وتحديدا مع عقد مؤتمر الناتو فى ليتوانيا فى الفترة من ١١ إلى ١٢ يوليو القادم، وتزداد التوقعات بخصوص الأخيرة خاصة بعد أن عبر المسئولون فى واشنطن عن تأييدهم لهذا الانضمام أيضا.
• • •
لكن هل يعنى هذا التوسع المستقبلى احتمال جر العالم لنزاع مسلح أو حرب عالمية؟ قطعا هذا هو الاتهام الروسى والصينى للناتو، لكن الحقيقة لها وجهان دائما، ففضلا عن أنه لا يوجد تحالف عسكرى مقابل للناتو مثلا بين الصين وروسيا حتى الآن على الأقل، إلا أن سياسة التحالفات العسكرية عادة تؤدى إلى مفهوم الردع وهو ما يعنى أنه بينما أن توسعة عضوية الناتو قد تؤدى إلى المزيد من عمليات بيع السلاح وزيادة الإنفاق العام على التسلح بشكل عام، إلا أن الجانب الإيجابى لهذا التوسع هو ردع الجانب الروسى والصينى من التفكير فى مغامرات عسكرية قد تجر العالم إلى حروب مسلحة.
لكن الوجه الآخر للحقيقة أنه وفى غياب تطبيق قواعد القانون الدولى وخاصة مع شلل الحركة داخل مجلس الأمن، ومع زيادة عمل الجماعات السياسية المرتبطة بمصالح بيع السلاح عالميا، على سبيل المثال ارتبط انضمام فنلندا إلى الناتو بصفقة أسلحة جوية بين فنلندا والولايات المتحدة تقدر بنحو ١٠ ملايين دولار، فإن عملية توسع الناتو بينما قد تؤدى بالفعل إلى الردع فى الأجل القريب إلا أنها تفتح باب الاستقطابات العسكرية على المدى المتوسط والبعيد وهو ما يعنى أن فرص اندلاع المزيد من النزاعات المسلحة قد تظل مطروحة حتى مع ــ أو الحقيقة بسبب ــ توسع عضوية الناتو، لأن الاتجاه نحو زيادة الإنفاق العسكرى يرتبط أيضا عادة بتصاعد التيارات اليمينية والقومية، لذلك لم يكن مستغربا أن يأتى «حزب الفنلنديين» وهو حزب يمينى متطرف فى المركز الثانى فى الانتخابات البرلمانية التى جرت الأسبوع الماضى ليجبر رئيسة الوزراء الفنلندية، سانا مارين، على الاستقالة بعد أن تقهقر حزبها الاشتراكى الديموقراطى إلى المركز الثالث!
مدير برنامج التعاون الدبلوماسى الأمريكى اليابانى، وأستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر.