عنوان هذا المقال قد يبدو مبهما لأول وهلة لذا من الأفضل أن نشرحه فى البداية. كلمة الطبيعة فى عنوان المقال لا تعنى الفيزياء فقط، بل تعنى الطبيعة من حولنا بما فيها من كائنات ونباتات.. إلخ. أما السؤال عما نتعلمه من الطبيعة فهو مختص بعلوم الكمبيوتر، فما هى العلاقة؟ هناك ثلاثة أنواع من العلاقات تربط ما بين الطبيعة من حولنا وأجهزة الكمبيوتر: النوع الأول هو استلهام أفكار من طريقة عمل بعض الظواهر الطبيعية لبناء أجهزة كمبيوتر جديدة أو برمجيات مبتكرة، النوع الثانى هو استخدام نظم المحاكاة فى أجهزة الكمبيوتر لفهم بعض الظواهر الطبيعية، أما النوع الثالث فهو استخدام عناصر من الطبيعة (مواد جديدة مثلا) لبناء أجهزة كمبيوتر أكثر كفاءة. مقال اليوم يتحدث عن النوع الأول: هل إذا أمعنا النظر فى طريقة عمل بعض الظواهر الطبيعية نستطيع الحصول على أفكار لتصميم أجهزة كمبيوتر أو برمجيات مبتكرة؟ الإجابة هى نعم، وسنرى عدة أمثلة فى هذا المقال. إذا أمعنا النظر أكثر فسنجد أفكارا أكثر فالطبيعة نهر لا ينضب معينه.
...
أشهر مثال لما تعلمناه من الطبيعية هو المخ البشرى؟ لا يزال هناك الكثير الذى لا نعلمه عن كيفية عمل المخ البشرى، لكن ما نعلمه حتى الآن كافٍ لعلماء الكمبيوتر ليتعلموا منه ما يعرف بالشبكات العصبية. المخ يتكون من ملايين الخلايا العصبية وهذه الخلايا متصلة ببعضها عن طريق بلايين الأعصاب التى تنقل شحنات كهربائية بين الخلايا العصبية وبعضها، تسمى هذه التركيبة بالشبكات العصبية. عندما نتعلم شيئا جديدا تزداد قوة الشحنة بين بعض الخلايا وتضعف الشحنة بين البعض الآخر، هذا طبعا تفسير مخل لكنه يفى بالغرض. علماء الكمبيوتر قرروا التعلم من تصميم المخ البشرى وأنتجوا برمجيات تعمل بنفس الطريقة، لا توجد خلايا حقيقية أو شحنات لكن برمجيات تحاكى تلك العلمية. النتيجة كانت مبهرة وهى ما نعرفه الآن بتعلم الآلة (Machine Learning) وهو ما نقصده هذه الأيام حين نذكر لفظة الذكاء الاصطناعى.
...
عندما ننظر حولنا حين نسير فى الشوارع والحدائق فإننا نرى مخلوقات كثيرة تعيش مع بعضها فى مجموعات كبيرة مثل النمل والنحل وأسراب الطيور وهكذا. هذه الأسراب تتعامل بذكاء ونظام مع الطبيعة من حولها لتصل إلى أهداف معينة مثل الحصول على طعام وتخزينه ومحاربة عدو أو الهرب من خطر إلخ. دراسة هذه الأسراب وكيف تتعاون فيما بينها خاصة أن كائنا منفردا من هذه الأسراب لا يستطيع وحده القيام بتلك المهمات قادت إلى ما يعرف فى علوم الكمبيوتر بذكاء السرب (swarm intelligence) وقد أطلق جيراردو بينى وجينج وانج وهما من علماء هندسة وعلوم الكمبيوتر هذه المسمى سنة 1989. مراقبة الأسراب فى الطبيعة أدت إلى قفزات كبيرة فى تصميمات مجموعة من الروبوتات التى تتعاون معا فى حل مشكلة أو مجموعة من الطائرات المسيرة التى تتعاون فيما بينها لتحقيق هدف ما، كل ذلك جاء من ملاحظة الطبيعة ودراسة بعض مظاهرها.
...
نظرية التطور فى الكائنات الحية والتى تجعل الكائنات تطور من صفاتها لتتعايش مع البيئة المحيطة بشكل أفضل جذب انتباه علماء الكمبيوتر. إذا كان عندنا مشكلة ما نريد حلها عند طريق الكمبيوتر ولا ندرى ما هى أفضل الحلول فيمكننا استخدام ما يسمى بالخوارزميات التطورية (evolutionary algorithms). تبدأ تلك الخوارزميات بإنتاج عدد كبير من الحلول، بعضها ضعيف وبعضها قوى، ثم يبدأ الكمبيوتر فى «مزاوجة» حلين لإنتاج حل ثالث أو عمل تغيير طفيف فى أحد الحلول وهو ما يسمى (mutation) ثم يتم تقييم تلك الحلول الجديدة والتخلص من بعض الحلول الضعيفة، ثم نعيد الكرة مرة أخرى حتى يظهر لنا حل يعتبر هو الأفضل. طبعا الموضوع أكثر تعقيدا بكثير مما حكينا لكنه يكفى لبيان ما نتعلمه من الطبيعة.
...
إذا نظرنا إلى الجهاز المناعى للجسم البشرى سنجده يتمتع بذكاء كبير، فهو يتعرف على الأجسام الضارة ويهاجمها ويتعلم ما هو ضار مما هو غير ضار (إلا طبعا فى حالة المرض). ملاحظة كيف يعمل الجهاز المناعى ألهب خيال علماء الكمبيوتر فابتكروا نظام المناعة الاصطناعى (artificial immune system) وهو طريقة لحل المشكلات باستخدام الكمبيوتر وليس فقط كما قد يتبادر إلى الذهن حماية الكمبيوتر من الهجمات، وإن كان إمكانه عمل ذلك أيضا.
...
مثال مهم ما زال فى طور التجارب ويعتبر فى بؤرة الصراع بين أمريكا والصين بجانب الذكاء الاصطناعى هو ما يعرف بالحاسبات الكمية (quantum computing). هذه النوعية من الحاسبات تعتمد على الفيزياء الكمية بدلا من الإلكترونيات فى أجهزة الكمبيوتر العادية التى نستخدمها. هذه الأجهزة الجديدة تتفوق على أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة فى بعض أنواع التطبيقات وليس كلها، لكن هذه التطبيقات مهمة جدا لأن منها كسر التشفير المستخدم فى أغلب الاتصالات المشفرة وأجهزة الكمبيوتر المؤمَّنة، لكن كما قلنا ما زالت تلك الأجهزة فى طور التجارب، أو هكذا يعلنون.
كل هذه الأمثلة غيض من فيض، ولكنها تدعونا إلى النظر والتمعن فيما حولنا فقد يكون حل مشكلة ما نصب أعيينا لكننا لا نراه.
...
بعد هذا الطواف السريع حول ما تعلمناه من الطبيعة فى مجالات تصميم وبرمجة أجهزة الكمبيوتر أليس من الأجدى أن يتم تدريس مادة لطلابنا فى كليات الهندسة وكليات الحاسبات بعنوان مثل «كمبيوتر مستوحى من الطبيعة» أو (Nature Inspired Computing)؟ هذا جدير أن يخرج طلبة تمتلك موهبة إمعان النظر فيما حولها واستلهام أفكار جديدة من أشياء نراها بأعيننا كل يوم دون أن نلتفت لها.