بورسعيـد: أول فبراير ٢٠١٢
فى ٢٨ يناير ٢٠١٢ كانت مباراة النادى الأهلى ونادى المقاولين العرب فى ستاد القاهرة. وكما نعرف، فقد كان مشجعو فريق الأهلى، ألتراس أهلاوى، فى طليعة مظاهرات الثورة فى أيامها الأولى، هم ومشجعو فريق الزمالك، ألتراس ووايت نايتس ــ بل كان الألتراس لهم دور كبير فى كسر صفوف الداخلية المواجهة للمظاهرات يوم ٢٨ يناير ٢٠١١.
تكَوَن ألتراس أهلاوى عام ٢٠٠٧ ومن البداية واجه مشاكل مع الداخلية التى استهدفته ــ كما تستهدف أى تنظيم شعبى يحاول التشكل ــ بهدف تدجينه، وتيسير استعماله فى أعمال الإرشاد والبلطجة. فحين قامت مظاهرات الأيام الأولى من الثورة، وكانت بالأساس ضد عنف الداخلية، هب الألتراس إليها، وفى اعتصامات الميدان كانوا يطوفون بأرجائه بطبولهم وأناشيدهم فيشعلون الحماسة والفرحة، وصار هتافهم المميز للحرية ــ أربع صفقات قصيرة متتالية ثم «حرية!» ــ علامة ترقيم لهتافاتنا فى المسيرات والاعتصامات.
محمد مصطفى (كاريكا)، الذى قتلوه فى أحداث شارع مصطفى محمود، وعبودى، الذى أقاموا عليه حفلة ضرب خلف أسوار البرلمان فى إرهاصات أحداث مجلس رئاسة الوزراء، كانا أحدث ضحايا النظام من الألتراس. وفى مباراتهم مع المقاولين العرب، رفع ألتراس أهلاوى صور شهدائهم وغنوا وهتفوا ضد الشرطة طوال المباراة:
يا غراب ومعشش
جوه بيتنا
بتدمر ليه
متعة حياتنا؟
مش هنمشى على مزاجك
ارحمنا من طلة جنابك
لفق لفق
فى القضية
هى دي
عادة الداخلية
الأربعاء أول فبراير ٢٠١٢ كانت الدعوة لاجتماع فى ساقية الصاوى لمناقشة الأداء الغير مطَمْئِن للبرلمان، ولمحاولة التوصل إلى استراتيجية للتأثير على تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور. كنت أجلس بين علاء عبدالفتاح والمهندس إبراهيم المعلم، ولم يكد يبدأ الاجتماع حتى جاءت رسالة على محمول المهندس إبراهيم تقول إن هناك قلقا فى بورسعيد، وأن أحد مشجعى الأهلى أصيب. فى هذه الليلة كان الأهلى يلعب مباراة مع نادى بورسعيد وذهب ألتراس أهلاوى إلى بورسعيد ليشجعوا فريقهم، ولم يكن أحد يشك فى أن الأهلى سيفوز بالمباراة لكنه خسرها ٢/صفر. عرض المهندس إبراهيم الرسالة على وهو يتساءل «طيب ليه؟ مش غريبة دي؟ ما بورسعيد كسب..» وقبل أن يكمل الجملة بادرتنا رسالة جديدة: «مات ثلاثة مشجعين»، ووراءها رسالة «يقدر عدد المصابين الآن بثمانية عشر».. كنا قد تركنا الاجتماع وخرجنا مسرعين من القاعة وهو يردد :إيه اللى بيحصل؟ إيه اللى بيحصل؟ وقفنا ثلاثتنا خارج باب القاعة، تحت كوبرى ١٥ مايو، والرسائل تتوالى على الهاتف وأنا أرقب إبراهيم وأرقب علاء كل على هاتفه: سبعة وعشرين مشجعا ماتوا ــ لا، عفوا، خمسة وثلاثين مشجعا ــ لا.. الأرقام تعلو ونحن نسارع إلى مقر جريدة الشروق فى المهندسين حيث الشاشات موقدة والهواتف ترصد الأرقام تعلو وتعلو.
وفى منتصف الليل نترك ــ علاء وأنا ــ الشروق ونتجه إلى محطة رمسيس لننتظر قطار الألتراس القادم من بورسعيد. المئات حضرهم نفس الهاجس فوجدنا أنفسنا جزءا من مجموعات وأفراد آتية ــ من وسط البلد، من غمرة، من على كوبرى أكتوبر ــ تدخل مسرعة إلى المحطة. فى الصالة الكبيرة حشود الشباب والهتافات والأعلام المُلَوِحة.
قبل الثورة بفترة قصيرة، تفوق النظام على نفسه مرة جديدة، فأعاد إخراج المبنى ــ الذى كان مهيبا فى عزوفه وصرامته ــ فزينوه بديكور باذخ الحجم والابتذال فصارت الصالة الكبيرة تواجهك بالنخيل الاصطناعى والعواميد الضخمة المذهبة. الآن، فى الثالثة صباحا، الصالة الشاسعة المبهرجة ثائرة تدوى بالهتاف، هتاف هادر يعود صداه فيضاعفه مرات ومرات. الصالة شامخة راسخة، تتيح لك أن تلمح، وراء العناصر المبتذلة الدخيلة، التكوينات القديمة الأساسية للسقف والحوائط. ومئات بل وآلاف البشر موجودون هنا، الأعلام تُلَوِح وتتماوج لا تسكن لحظة، الشباب يتكدس على أبراج السقالات الموجودة بعد فى الصالة، على الشرفة العالية التى تطل عليها، على السلالم، وصولا للسقف. هتافٌ هتافٌ هتاف، هتاف بحقوق الشهداء، هتاف يطالب بالقصاص. الغضب يملأ المكان ويتجسد. الألتراس، الأمهات، شباب الثوار، المتعاطفون، الكل ينتظر القطار الآتى من بورسعيد. ويأتى القطار، بطيئا، يئن، ويهب المئات للقائه فيدخل إلى الرصيف تكاد لا تراه من الرابضين فوقه، المتعلقين به، السائرين إلى جواره. قطار درجة ثالثة، استغرق خمس ساعات ليأتى من بورسعيد، خمس ساعات فى البرد القارص، فى الظلام، للشباب الذى نجا من الغدر، للشباب الذى استشهد إخوانه بين يديه، للشباب الذى يدخل الآن إلى القاعة يتكئ بعضه على بعض، شباب يلف رأسه أو أطرافه بالضمادات، شباب بالملابس الممزقة، شباب شاحب، شباب مدمم. خبا الهتاف؛ الطاقة كلها تحولت إلى الأحضان، إلى العناق، إلى البحث عن وجه معين، إلى السؤال والإجابة عن السؤال.
قتلوا أربعة وسبعين شابا.
باصات مجهولة الهوية وصلت إلى الاستاد، نزل منها رجال دخلوا إلى الملعب دون حاجة إلى تذاكر. المحافظ ومدير الأمن، اللذان لا يتغيبان عن حضور أى مباراة لنادى بورسعيد، تغيبا اليوم. ومع صفارة النهاية أطفئت الأنوار وانغمس الملعب فى الظلام وانشقت صفوف الأمن لوهلة سمحت بمرور مجموعات من الرجال ركضت عبر الملعب تهاجم «تالتة شمال». حاول مشجعو الأهلى الهروب فوجدوا البوابات قد تم لحامها فلا تفتح. تدافع، تدافع، دهس وقتل. قالوا إن القاتل قتل البعض بكسر سريع مهنى للرقبة، وقتل البعض بأن ألقى بهم من أسوار المدرج ــ
فى بورسعيد ضحايا شافوا الغدر قبل الممات
شافوا نظام خَيَر ما بين حُكمُه والفوضى فى البلاد
كان من الصعب أن نصدق ما حدث، أن نستوعبه. فى المدن والقرى تحرك الآلاف لتوديع أصدقائهم، لدفنهم وتشييعهم. الألتراس لا يعرفون التقسيمات الجغرافية، المهنية، الطبقية.
أرسل المشير حسين طنطاوى طائرة عسكرية لتعود بلاعبى الأهلى إلى القاهرة، وفى ظهور قصير فى التلفزيون المصرى قال «بس احنا عايزين الشعب كله يشترك فى حاجات زى دى.. الشعب ما يقعدش.. ماهو مين اللى عمل كده؟ ما هو أفراد من الشعب المصرى. الشعب المصرى ساكت عليهم ليه؟ كله يشترك. لازم»!، ظل الإعلام لأيام طويلة يهاجم بورسعيد ويصورها كمكان للشر، ويحاول تلطيخ السُمعة البطولية التى اكتسبتها «المدينة الباسلة» حين تحملت النصيب الأكبر من عدوان بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر فى عام ١٩٥٦. خرج أهالى بورسعيد يتظاهرون فى الشوارع، وصفوا كيف حاولوا الوصول إلى الألتراس الزائرين فمنعهم الأمن. أعلنت السلطات عن بدء تحقيق فى المذبحة.
بانرات وأعلام الألتراس تطير فى كل شارع. أقام شباب الألتراس على باب كل بيت رقد فيه ألتراس مصاب. انضم ألتراس وايت نايتس إلى ألتراس أهلاوى فتظاهر الفريقان معا ورفرفرت أعلامهم من سارية واحدة. تجمع الشباب أمام بيوت شهداء الألتراس المغدورين لينشدوا لهم بينما الفنانون يرسمون صورهم على الجدران. ووسط كل الحزن والجزع والغضب بدأ شباب الألتراس يتجلون فى هيئة ملائكية على جدران شارع محمد محمود. أنَس، أصغر الألتراس، الذى ذهب إلى الماتش دون إذن أهله:
لابس تى شيرت أحمر
ورايح بورسعيد
راجع وكفنى أبيض
وف بلدى بقيت شهيد
كريم خزام، الذى لم يتحمل أبوه الحياة بعده، فراح ضحية سكتة قلبية:
أوو وو وه، فى الجنة يا شهيد
أوو وو وه، الثورة من جديد
أمجد أصلان، حسن طه، إسلام طلبة، باسم عثمان، محمد غندور، يوسف محمد يوسف، محمود سليمان، مهاب صالح، مصطفى عصام … أربعة وسبعون شابا. ألتراس أهلاوى. لن ننسى.