المستثمر المتمرّس لا يأكل القرارات والتصريحات، ولا يعرف طريقا لتحقيق أهدافه غير السوق الهادئة المستقرة العادلة، التى تتوافر بها المحفزات، وتقل بها العراقيل واللوائح والتعليمات. المستثمر كلاعب الكرة المحترف، لا يحب أن يشعر بحكم المباراة، ولا يألف سماع صافرته طوال الوقت، وإلا فترت همته وضعف أداؤه وخرج من الملعب فى أقرب وقت إلى مكان آخر يفقه قاعدة «دعه يعمل دعه يمر» التى أسس عليها اقتصاد السوق منذ أكثر من قرنين من الزمان.
تلك مقدمة ضرورية للوقوف على الأثر المتوقع لأية قرارات تنظيمية أو قوانين يقصد بها دعم وتنشيط الاستثمار فى أى مكان. ولا ينكر أحد أن أنشط أسواق المال على الإطلاق تلك التى اتخذت من وول ستريت مقرا لها، هى الأكثر تنظيما والأعنف قبضة متى اتصل الأمر بمخالفات تستحق العقاب. بل إن سوق المال الأمريكية تعرف بكونها مفرطة التنظيم overــregulated نظرا لتعدد الجهات التى تنظّم أنشطة تلك السوق ومنها هيئة الأوراق المالية والبورصات SEC (المنوط بها تنفيذ القوانين الفيدرالية للأوراق المالية، واقتراح تشريعاتها، وتنظيم قِطاع الأوراق المالية) وهيئة تنظيم الصناعة المالية FINRA (وهى مؤسسة ذاتية التنظيم تضع وتطبق القواعد التى تحكم الوسطاء المسجلين، وشركات السمسرة فى الولايات المتحدة.
ومهمتها المعلنة هى «حماية الجمهور المستثمر من الاحتيال والممارسات السيئة»).. ذلك فضلا عن البورصات نفسها باعتبارها الخط الرقابى والتنظيمى الأول لحماية جميع أطراف السوق وتنظيم القيد والتداول بمنصاتها المختلفة.
لكن تلك القبضة القوية لم تمنع المستثمرين من الإقبال على التعامل فى سوق المال الأمريكية، بل على العكس، فقد وفّرت ضمانة وحماية للاستثمارات الجادة، وطردت نوعية معينة من الاستثمارات، تلك التى ترعى على البضاعة المزجاة، وتألف التعامل فى أسواق قوامها التلاعب وغسل الأموال والتهرّب الضريبى.
أما إذا أساءت الهيئة الرقابية استغلال سلطاتها، وانحرفت جهة التنظيم عن مهامها بالانحياز أو التعنّت أو تعمّد تصفية الحسابات الشخصية... فهذا أذان بموت السوق ونفور المستثمرين، ولا يمكث فى تلك البيئة العطنة سوى نوعين من المتعاملين: إما فئة مغلوبة على أمرها تحاول أن تخرج من السوق بأقل الخسائر بعدما انتهى أملها فى تحقيق المكاسب العادلة، أو فئة المتلاعبين التى أتقنت التكيّف مع هذا النوع من الإدارة غير الرشيدة.
•••
لم يعد العالم بحاجة إلى إعادة اختراع العجلة! فقط عليك أن تقرر إما أنك تتبنى قيم ومفاهيم السوق الحر، تقدّر وتثمّن قوى العرض والطلب، ولا تسمح بالتدخل فى آليات السوق إلا فيما ندر، وفى حالات استثنائية. أو أنت تقيم سوقا من نوع آخر فى ظل اقتصاد موجّه ينفّذ فيه اللاعبون أجندة مسبقة التجهيز، تحكمها الدولة التى تملك كل شىء ولا يملك الأفراد فيها أو المؤسسات الشخصية أى شىء يذكر. النمط الأخير يوشك أن يختفى تماما من كل دول العالم وأسواقه، وإذ كان ثمة أسواق تتسم ببعض خصائص الاقتصاد الموجّه، فإنها عادة ما تزعم خلاف ذلك، ولا تجهر به خشية نفور المتعاملين.
وتيرة التغيير تتسارع اليوم بشكل غير مسبوق، وإذا تخلّف أحد عن ركب التغيير يوما واحدا فلن يعوضه أبدا، ولن يتمكّن من «البدء من حيث انتهى الآخرون» تلك المقولة الخدّاعة التى عمّقت التخلّف بين كثير من الأمم، ذلك أنك إن حاولت اليوم البدء من حيث انتهى الآخرون، ولم تخلق لنفسك نمطا خاصا للتطور، فإن قطار التغيير فائق السرعة سوف يدهمك، وبينما أنت لاهٍ فى محاولات يائسة للبدء من حيث انتهى المبدعون بداية العام الماضى، تجد هؤلاء المبدعين عادوا أدراجهم وسلكوا دروبا جديدة لا تعلم عنها شيئا.
انظر إلى شركة أسسها توماس أديسون فى مدينة نيويورك عام 1892 تحت مسمّى «جنرال الكتريك» ثم تحوّلت عبر السنوات إلى عملاق اقتصادى كبير متعدد الجنسيات له أذرع صناعية وتكنولوجية فى قطاعات الطيران، والنقل، والرعاية الصحية، والطاقة، وصناعة التكنولوجيا الرقمية، ورأس المال الاستثمارى والتمويل... ومنذ أيام فقط وبعد أن واجه التكتل الكبير العديد من الصعوبات المالية، وبعد أن حوله رئيسه التاريخى «جاك ولش» إلى شركات تعتمد كلها على الذراع المالية وتتأثر بقوة من ارتباك أسواق المال (كما حدث فى أعقاب أزمة الرهن العقارى فى 2008) تبدأ «جنرال إلكتريك» فى عمليات الانقسام إلى شركات ثلاث متخصصة فى مجالات الطيران والرعاية الصحية والطاقة. هذا التحوّل من نموذج التكتلات الكبيرة التى تجمع شركات وأنشطة ربما غير متصلة أو مترابطة بأى شكل، هو بداية عصر جديد لتعزيز التخصص فى النشاط، وعدم تضخّم الشركات إلى الحد الذى يصبح فيه الحجم عبئا على المنظومة كلها. ربما كان السبب فى ذلك معززا ومشفوعا بطلبات السوق نفسه. فعلى صعيد المستثمرين واجه غالبيتهم صعوبة فى التنبؤ بحركة سهم «جنرال إلكتريك» الذى تتوقف قيمته السوقية على العديد من الأنشطة المتباينة. من ناحية أخرى فإن كبار التنفيذيين المطلوبين لإدارة هذا النوع من التكتلات عادة ما تكون مهاراتهم قد أثقلت فى تخصص بعينه، بحيث يصبح تكليفهم بإدارة التكتل الكبير مهمة شاقة تفوق قدراتهم.
•••
السوق إذن هى القائد، وهو الذى يغيّر قواعد اللعبة كيفما شاء، وعلى التكتلات الكبرى التى تشكّلت على هدى نموذج «جنرال الكتريك« أن تعيد حساباتها، وأن تستوعب هذا التغيير الدرامى فى أسلوب إدارة الأنشطة الاقتصادية قبل أن تدفع فاتورة كبيرة. تخيل معى كيف تتصرف بعض الأسواق الناشئة فى تلك المعضلة؟ هى بالكاد قد بدأت فى تأسيس كيانات كبيرة متعددة الأنشطة، وتعتمد الاندماج والاستحواذ وسيلة مضمونة لتحقيق اقتصاديات الحجم وتوزيع المخاطر على عدد كبير من الأنشطة غير المرتبطة... اليوم عليها أن تفهم الأسباب التى دعت إلى تقسيم التكتلات الكبرى، لا أن تحذو حذوها معصوبة العينين بدعوى أن هذا ما انتهت إليه الدول المتقدمة!
وحده نبض السوق هو الذى يبنى الرصيد المعرفى لأى اقتصاد، وهو الذى ينبغى على الدولة وجهات التنظيم احترامه وعدم التعالى عليه، وعدم إهماله لمجرد أن الرقيب يحسب نفسه أنزه من السوق وأكثر علما! القوى الخفية التى تحكم آليات السوق تعمل بذكاء وحياد لا يصح التدخل فيه تحت أى مسمّى، دون أن يتعارض ذلك مع يقظة الرقابة والتنظيم.
شرفت بالعمل فى البورصة المصرية لما يقرب من 15 عاما، وتقلّبت فيها بين العديد من المناصب التى كان أحدها مدير عام إدارتى الرقابة على التداول والمخاطر، حينها كانت يد الرقابة قوية على المخالفات، وحققت التنفيذات العكسية (آلية لتصحيح الأخطاء والعقاب لنوع من المخالفات فى التداول) رقما قياسيا، لم يتهم معه رقيب الصف الأول أبدا بعدم الحياد، وكانت البورصة حينها ترفل فى سيولة كبيرة وتنوّع فى الأسهم والقطاعات والأنشطة، وكان رأس المال السوقى للأسهم المقيدة قد بلغ فى عام 2008 ما يزيد على 100% من الناتج المحلى الإجمالى للدولة، وكانت شركاتنا تدرج فى المؤشرات الدولية، وكنا قاب قوسين أو أدنى من التحوّل إلى مركز مالى إقليمى... اليوم جفت سيولة السوق، وتراجع عدد الشركات المقيدة إلى أدنى المستويات، ولا يكاد رأس المال السوقى للأسهم المدرجة يزيد على 11% من الناتج المحلى الإجمالى، وتستبعد شركاتنا من المؤشرات الدولية، والمحاكم تغص بكثير من الدعاوى القضائية التى تستنزف أطراف السوق فى نزاعات مع الرقيب... ليصبح سوق المال الملف الاقتصادى الوحيد الذى لم تشرق عليه شمس الإصلاح الاقتصادى بأى وجه مقبول.