«تطوير العقل المصرى والتنمية الشاملة» ذلك كان عنوان ندوة مهمة دعانى للحديث فيها ظهر الأربعاء الماضى الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة بمناسبة مرور ١١٠ أعوام على تأسيسها.
العنوان كبير ومهم، ويحتاج إلى مئات الندوات وآلاف الخبراء والمختصين والباحثين لكى يدلى كل منهم بدلوه. فى هذا اليوم كان هناك كبار الأساتذة وعمداء الكليات بالجامعة، وكذلك الطلاب وبعض أعضاء اتحاد الطلاب، فى قاعة أحمد لطفى السيد التاريخية المنشأة منذ عام ١٩٣٥.
المكان مهيب ويبعث على الرهبة والفخر فى آن واحد. فى هذا المكان تواجد الكثير من العظماء الذين شكلوا بحق القوة الناعمة لمصر.
ما شجعنى على الحديث أن الجامعة ــ التى أتشرف أننى تخرجت منها فى كلية الإعلام قسم الصحافة عام ١٩٨٦ــ بدأت فى إصدار مجموعة من الكتب تحت عنوان «مشروع تطوير العقل المصرى».
فى كلمتى ــ التى لم تزد على عشر دقائق ــ قلت إنه لا يمكن تطوير العقل المصرى من دون إزالة كل القيود المفروضة على هذا العقل من جهات كثيرة. قلت إن البداية هى ألا نقمع أولادنا فى بيوتنا، وأن نتوقف تماما ونحن نتعامل معهم عن فلسفة «هو كده.. ولازم تنفذوا التعليمات من دون نقاش»!!.
وبعد البيت، يأتى دور المدرسة المهم جدا. وهنا لابد من تطوير التعليم بصورة جادة ومتوافق عليها مجتمعيا، ليقوم على أساس راسخ اسمه الفكر النقدى الحر. وفى الترتيب الثالث يأتى الدور الجوهرى للجامعات التى يفترض أن تكون ساحة أساسية للبحث العلمى المتحرر، وليس «للأبحاث المضروبة والمنقولة لزوم الترقية!».
قلت أيضا إن أحد الشروط الأساسية لتطوير العقل، أن تتوقف هيمنة الإرهاب المتمسح فى الدين على العقل، وحذرت بوضوح من اختطاف بعض المؤسسات والقوى الظلامية للعقل المصرى والعربى والإسلامى باسم الدين، الذى هو منهم براء. قلت بوضوح إن المؤسسات والقوى الظلامية موجودة منذ قديم الزمن وأوضح تجلياتها كان كهنة آمون فى العصور الفرعونية، وقلت إنه علينا أن نفرق كثيرا بين الدين وبعض المؤسسات الدينية، الموجودة فى معظم الأديان السماوية والوضعية، وأساء بعضها للدين كثيرا، على الرغم من أن جوهر الأديان واحد، وهو خدمة البشرية وإسعادها.
البحث العلمى فى الجامعة وبقية المؤسسات العلمية، ينبغى أن يتمتع بكل أنواع ودرجات الحرية، وإذا حدث ذلك، فسنكتشف أنه حتى إيماننا سيكون صحيحا وقويا، وليس من ذلك النوع الذى يركز على القشور والشكليات.
قلت أيضا إن البحث العلمى الحقيقى سيكون مفتاح التقدم الاقتصادى، فالغرب لم يتقدم إلا بهذا البحث العلمى. والصين فعلت الأمر نفسه، حينما تمكنت من هضم هذا المنجز الغربى وطورته ليصبح لديها نموذجها الخاص.
فى هذه الندوة لم أكن وحدى، بل ضمن صحبة متميزة للصديقين علاء ثابت رئيس تحرير «الأهرام»، ومحمود مسلم رئيس تحرير «الوطن». مسلم لمس فكرة مهمة وهى أن المجتمع أحيانا يكون ضد التغيير، حتى لو كان هذا التغيير مفيدا للمصلحة العامة، وضرب مثالا بكادر المعلمين الذى هاجمه الجميع وقتها، ثم أيده البعض حينما اكتشف أنه سيزيد من مرتبات المعلمين، لكن للمفارقة رفض معظمهم الخضوع لاختباراته، لأنهم يريدون الزيادة فقط وليس الخضوع للاختبار والتقييم ومن ثم التطوير.
علاء ثابت تحدث باستفاضة عن جامعة القاهرة وتاريخها ورموز التنوير فيها، وكيف يمكن استلهام هذا التاريخ لإعادة التقدم مرة أخرى، وأكد على ضرورة وضع خطة عمل واضحة لترجمة التصورات والأفكار إلى خطط عمل على أرض الواقع لإعادة تطوير العقل المصرى.
الدكتور محمد عثمان الخشت قدم العديد من الأفكار المهمة، من قبيل أن الخطاب الدينى لن ينصلح من دون إصلاح طريقة التفكير، وأن تغيير الكون يتم بالعمل وليس بالدعاء فقط، وأن المصلحة العامة هى ما يريده الله للبشرية.
وما لفت نظرى أكثر هو قول الدكتور الخشت أن هناك لجنة لتقرير منهج التفكير الناقد على كل المراحل الجامعية، مع تغيير المناهج لنركز على التعليم الحوارى، وليس ذلك القائم على الحفظ والتعليق، مع الاهتمام بمادة ريادة الأعمال حتى يتحول تفكير الطلاب والخريجين إلى بناء المشروع الخاص بدلا من الوظيفة الميرى.
كل التحية والتقدير لجامعة القاهرة فى عيدها رقم ١١٠، وكل الأمل أن تنشط أكثر مع بقية الجامعات لإحياء البحث العلمى الحقيقى وليس «المضروب»!