لا يوجد فى علم الاقتصاد خيار حاسم، كل قرار اقتصادى يمكن أن تراه من زوايا مختلفة. قرارات التوسّع المالى التى تستهدف تحريك الاقتصاد وتنشيط الأعمال والحد من القيود الضريبية مثلا، تأتى بتكلفة عالية إذا لم يتوافر بالموازنة العامة تمويل لأعبائها، وهو بالضبط ما حدث مع «ليز تراس» رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، التى خسرت رئاسة الحكومة بعد أقل من شهرين من انتخابها ومن قبلها وزير ماليتها على خلفية قرار غير مدروس وغير ممول بشكل كافٍ من الموازنة العامة. كذلك التشديد النقدى، يقصد به السيطرة على التضخم وانفلات الأسعار، لكنه فى سبيل ذلك يمكن أن يؤدى إلى نفور الاستثمار والضغط على جانب العرض الذى يعود بدوره ليتسبب فى مزيد من ارتفاع الأسعار مع فقد الوظائف. هى إذن توازنات يتعيّن على الاقتصاديين مراعاتها، وهى قرارات تصلح فى زمان ومكان ولا تصلح فى غيرهما، أو مع تغير أى من العناصر المرتبطة بالمشهد الاقتصادى العام.
• • •
خيارات اقتصادية وصفت بالنجاح لا لكونها مطلقة الصواب، أو لأنها تستند إلى نظرية غالبة، بل لأنها صادفت نجاحا لدى تطبيقها فى بلد ما وتحت ظرف محدد. ذات القرارات لا يصح نسخها وانتظار النتيجة ذاتها إذا ما لم تتوافر لها عناصر النجاح التى ليست بالضرورة عناصر اقتصادية، بل ربما اجتماعية أو نفسية أو سياسية.
منذ أيام أثير فى مواقع التواصل الاجتماعى بمصر جدل بشأن مدى نجاح تجربة «بينوشيه» فى تشيلى، وكيف أن استعانته بمن عرفوا بفتيان شيكاغو لإدارة الملف الاقتصادى خلال حقبة حكمه الممتدة من 1973 إلى 1990 كانت نموذجا لمعجزة اقتصادية (على حد وصف الاقتصادى الشهير ميلتون فريدمان) بينما يعتقد عدد آخر من المشتبكين فى الجدل بأن تلك التجربة كانت فشلا صرفا؛ لأنها تركت إرثا من التفاوت الطبقى وانعدام العدالة فى توزيع الدخل وتراجع الناتج الصناعى لصالح أنشطة المال والتجارة، لم تتخلّص منه تشيلى حتى اليوم، ولا أمل فى التخلص منه إلا بالحركة المدنية التى انطلقت عام 2019 رافعة شعار «مع السلامة يا شيكاغو»، فى إشارة إلى وداع حتمى لتجربة الفتيان، والتخلص من بقايا دستور بينوشيه ومشروع «اللبنة» BRICK الذى أتى به فتيان شيكاغو إلى الأبد. (أولاد أو فتيان شيكاغو هم مجموعة من الاقتصاديين الذين تعلموا الاقتصاد على يد «هاربرجر» فى جامعة شيكاغو متأثرين بتعاليم «ميلتون فريدمان» وتحت إشرافه، كواحد من أهم أعمدة الاقتصاد الحر على مر التاريخ. ومنهم من تلقى العلم فى تشيلى بنظام تعليمى مشترك مع جامعة شيكاغو، ليتخرجوا جميعا محمّلين برسالة واضحة لتغيير هذا البلد، بل وعدد من دول أمريكا اللاتينية الأخرى).
هذا الجدل نموذج حى على كيفية تناول منهج اقتصادى بعدسات متباينة، وكيف يختزل الناس تجربة ثرية عميقة دامت عقودا، فى حكم سريع غير منصف، وبعبارة لا تخلو من التعالى، إذ تمارى بجرأة فى قضية اختلف حولها اقتصاديو نوبل بمنتهى التواضع.
فى علم الاقتصاد كل البيانات يمكن أن تؤيد رأيا وذات البيانات (ولا أقول بيانات أخرى) يمكن أن يستدل بها على ما يهدم ذاك الرأى. النمو الاقتصادى الكبير الذى تحقق فى عهد بينوشيه عقب انفتاحه الاقتصادى الذى دشّن به حكمه، يحتج به على كونه من أضعف المعدلات التى تحققت بتشيلى خلال الحكومات العشر الممتدة من 1958 إلى 2018 إذا ما قيس بمعدل النمو السنوى المتوسط لكامل فترة حكمه (نحو 2.9%). الاستثمار فى البحث والتطوير الذى يعد سبب استدامة أى اقتصاد حديث، هو اليوم من أقل معدلات الاستثمار بين دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية (0.35%) وكذلك الإنفاق على التعليم والصحة فى أدنى المستويات.
مفهوم تكلفة الفرصة البديلة يظل حاكما فى تطويع أى مؤشر لحكم يصدر لصالح تجربة ما أو ضدها. فلو أن مشروعا ما حقق إيرادا كبيرا وعائدا على الاستثمار قدره 20% مثلا، فإن نجاح ذلك المشروع يظل موقوفا على التأكد من أن ما تم إنفاقه فيه لا يحقق إيرادا أكبر وعائدا أعظم لو أنه أنفق فى فرصة بديلة أو مشروع بديل ربما حقق عائدا على الاستثمار قدره 35% بذات التكاليف.
تقييم حقبة اقتصادية كاملة يجب أن يخضع بدوره لذات الموازين، فهو محمّل بنجاحات كثيرة وإخفاقات عدة، وكل من النجاحات والإخفاقات كان لها بدائل ربما أكبر نجاحا أو أقل إخفاقا أو أقل نجاحا وأعظم إخفاقا. هل ترى أن تشيلى كانت تسير فى مسار صحيح قبل الانفتاح الذى أتت به الديكتاتورية؟ هذا أمر يرفضه «فريدريش هايك» الاقتصادى الكبير الحائز على جائزة نوبل وصاحب الإسهام الضخم فى الدورات الاقتصادية، والذى زار تشيلى فى عهد بينوشيه وأشار إلى أن بعض الدول لا يمكن أن تحقق نجاحا إلا بحكم ديكتاتورى رشيد!. لكن الاقتصادى «أمارتيا سين» الحائز على جائزة نوبل يعتبر أن ما يسمى بـ«التجربة النقدية» التى استمرت حتى عام 1982 فى شكلها النقى، قليل من يزعم بكونها ناجحة!. فى كتابه «الجوع والعمل العام» الصادر عام 1991، أكد «سين» على فشل تلك التجربة فى أن تؤدى إلى نمو اقتصادى مستدام وشامل.
• • •
الخيارات الاقتصادية تخضع أيضا فى تقييمها إلى اعتبارات السببية، وهى اعتبارات غير محسومة وتحكمية بدرجة كبيرة. فى مسألة تشيلى مثلا، هناك من يظن أن المعجزة الاقتصادية تحققت فى عهد الديمقراطية الذى تلا حكم بينوشيه، حيث عقدت اتفاقيات للتجارة الحرة، وقامت بإصلاحات اقتصادية، وأقدمت على فرض زيادات ضريبية صغيرة لتمويل الإنفاق الاجتماعى، كانت نتيجتها أن الفترة بين عامى 1990 و1998 شهدت نموا للناتج المحلى الإجمالى لتشيلى بنسبة 7.1% سنويا، وانخفض التضخم إلى 11.7%، وانخفض معدل البطالة إلى 7%، بينما انخفض الفقر بشكل مطرد ليصل إلى 8.6% فى عام 2017. هل كانت تلك النتائج منقطعة الصلة عن المقدمات التى مهّد لها فتيان شيكاغو؟ أم أنها قامت على الأسس التى أرستها سياسات الانفتاح، التى نقلت تشيلى من دولة صغيرة منغلقة على ذاتها ناتجها الإجمالى لا يزيد على 14 مليار دولار عام 1977، إلى دولة ذات اقتصاد متنوّع قدّر ناتجها بنحو 247 مليار دولار عام 2017 مستفيدة من إرث وعقيدة الاقتصاد الحر الذى زرعه فتيان شكاغو، ولم تنهض البلاد لتغييره بشكل صريح إلا مع انتفاضة عام 2019؟ هذه أمور لن تحسم بسهولة، وربما قدّر لها ألا تحسم أبدا ليظل الاختلاف سنة الاقتصاد كما هو سنة الحياة.
قانون آخر يحكم التجارب والخيارات الاقتصادية، وهو ما أسميه «قانون النقلات العنيفة»، فكل اقتصاد يشهد نقلة عنيفة يحقق طفرات واضحة فى الأجل القصير، لكن تلك الطفرات لا يمكن استدامتها إلا بتعزيزها بدعامات حقيقية، قوامها إبقاء الاقتصاد فى حالة تطور ونمو، بالاستثمار فى صحة وتعليم البشر والبحث والتطوير. أى دولة انغلقت بعد انفتاح طويل، ربما تحقق نجاحا فى مجال الصناعة والإنتاج المحلى بشكل عام، ولو على حساب رفاهية بعض الطبقات، ثم يظل نجاح ذلك الخيار رهنا بتطوير القدرات الصناعية، ودعمها بعاملى المنافسة وهدف الربح، اللذين لا يتوافران إلا فى القطاع الخاص. كذلك الدولة حديثة العهد بالانفتاح على العالم، فإنها تكون هدفا لعدد كبير من المستثمرين والمغامرين ومنتهزى الفرص المتعطشين لدخول تلك الدولة وقطف الثمار الأولى لتحريرها، خاصة أن هذا النوع من الدول عادة ما يجهل شروط اللعبة المفتوحة، فيكون الترخّص واضحا فى تقديم الامتيازات والإعفاءات، بما تشهد معه البلاد تطورا سريعا مشوبا بمخاطر تعميق التفاوت بين الطبقات وشبهات الفساد. لذا فمقتضيات التوازن الاقتصادى تفرض بعض الالتزامات الاجتماعية على الحكومات لتحسين توزيع الدخل القومى وثمار النمو الجديد.