تواتر مصطلح «التجديد» للخطاب الدينى منذ أن نادى به الرئيس، ولكن المعنيين لم يعوا بدقة مفهوم «التجديد» الذى يجب أن يؤدى إلى تغيير حقيقى فى المفاهيم والمعتقدات البالية، أهمها التأكيد على حرية الاعتقاد، وترسيخ مفاهيم المواطنة، وتأسيس دولة مدنية خالصة.
بعد عامين من هذا النداء، نعتقد أن المعنيين بهذا الأمر فهموا التجديد على أنه ترميم للقديم، لأننا لم نر تغييرا فى الجوهر أو فى المنهج، وأن كل ما حدث هو إعادة صياغة القديم فى صورة جديدة، وبالتالى النتائج واحدة، إذن هى تجميل وليس تجديدا.
التجديد الذى حدث هو مثل مالك لسيارة فخمة من الأربعينيات، طالبه الجميع ــ نظرا لكثرة أعطالها ــ باستبدالها بموديل حديث، ولكنه صمم على تجديدها، فقام بتغيير بعض قطع الغيار مع طلاء جديد أعطى الإحساس بأنها جديدة، ولكن الحقيقة أنها مازالت قديمة!
بالطبع لا يمكن مقارنتها بالحديثة، لأن القديمة مصنوعة على أسس علمية كانت صالحة بل ومبهرة لعصرها، أما الحديثة فبنيت على تكنولوجيا تعطى قدرات فائقة.
وكى لا نبخس صاحب جهد حقه، فقد بذل المعنيون جهدا معتبرا لتحسين صورة الإسلام فى الخارج فقط، مثل اقتحام فضيلة شيخ الأزهر للمقر البابوى، وهى سابقة، كما توجه بشخصه إلى هيئات حقوقية وسياسية عالمية فى الغرب لمخاطبتهم، فكان له أثر فاعل لتحقيق الهدف المنشود، ولكن هذا الجهد لن يأتى بثماره، وسيصبح حرثا فى الماء إذا لم يصاحبه تغيير فى خطاب الداخل يؤدى إلى تغيير عقل وسلوك الأفراد، فحادثة واحدة كتعرية سيدة كفيلة بنسف كل الجهود.
إن خطاب الداخل لم يبرح مكانه، وحيث إنه لا يتقدم فهو يتراجع. إن العقليات والمناهج التى تدير حركة التجديد هى ذاتها منذ عشرات السنين، تعتمد على القديم البالى، لا ينظرون بل وربما لا يعترفون بالنظريات العلمية الحديثة فى تفسير النصوص الدينية L'herméneutique، فمازال القائمون على التفاسير لا يفرقون بين «الدين» (المقدس والثابت)، وبين «الفكر الدينى» المتغير طبقا للزمان والمكان!
إن أولى خطوات الإصلاح هى البحث عن المنهج العلمى الذى يساعد على التجديد ليؤثر فى العمق لا فى الشكل، وأهم النظريات فى هذا الشأن «التفكيكية» لجاك داريدا (1930ــ2004)، وأهم محاورها:
أولا: الاختلاف، أى السماح بتعدد التفسيرات، فالتفككية تشن هجوما ضاريا على كل فكرة ثابتة وساكنة مجتثة من أصولها الموضوعية، وشروطها التاريخية، ولهذا فإن أصحاب مدرسة النقل يناصبونها العداء دائما.
ثانيا: نقد التمركز، فالتفككية تفرق بين «المركز» وهو النص «المقدس» الذى لا يمكن استبداله، وبين «التمركز» أى الفعل البشرى غير المقدس «المفسرون وتفسيراتهم»، ويؤكد داريدا على مدح المركز (المقدس) بوصفه العنصر المشع، وينتقد التمركز (التفسيرات البشرية) بوصفه متغيرا ومتحركا، ولهذا السبب امتنع النبى (ص) عن تفسير أى آية قرآنية، فيما يعتبر أمرا إلهيا، وحتى لا يتم حبس المعنى، وترك هذه المهمة للمفسرين لكل الحق فى تأويلاته تبعا للعصر الذى يعيش فيه وللمكان الذى نشأ فيه.
كما يعتقد داريدا ــ وهو اعتقاد صحيح من وجه نظرنا ــ أن التمركز جاء ليحقق أهواء بعض المفسرين الذين يرفضون التغيير، غالبا لسبب ارتزاقى، كما فعل باباوات المسيحية وحاخامات اليهود، وكما يفعل الدعاة الحاليون، أو لسبب استبدادى سياسى، كما حدث لتبرير توريث الخلافة من معاوية لابنه يزيد، وابتداع نظرية «الجبرية»، التى ترى أن كل ما يحدث هو قدر من عند الله، فلولا إرادة الله لما ورث يزيد الحكم!
ثالثا: أن التفككية ألغت أحادية المعنى فى «البنيوية»، فدلالة «المياه» ــ فى البنيوية ــ مدلولها واحد: «سائل شفاف لا لون ولا رائحة له»، أما التفككية فدعت إلى تعدد المعنى: «المياه» يمكن أن تعنى المركب الكيميائى (يد2 ا) أو مياه النهر أو البحر أو المطر...، كما طالبت النظرية بموت المؤلف ومولد القارئ، لتعطى السلطة الحقيقية للقارئ لا للمؤلف.
وتطبيقا لما سبق، فإننا نجد المتحاورين فى أى حوار دينى أو سياسى أو حتى طبى مرجعياتهم كلها لشخصيات دينية أحدثهم قبل القرن العاشر، يلقون علينا محفوظاتهم دون ذكر لآرائهم، يحيون علماء ماتوا من قرون ويميتون أنفسهم! فلا تحليل لهم ولا تجديد فى فكرهم، ولا استشهاد بالمجددين: محمد عبده وعلى عبدالرازق وغيرهما، ولكن كله نقلا لأقوال ابن تيمية وابن ماجه وابن كثير...، هؤلاء علماء أجلاء بذلوا قصارى جهدهم فى الاجتهاد طبقا لظروف عصورهم، سيجازيهم الله خيرا، ولكن أين نحن؟ أين اجتهاداتنا وعلومنا الحديثة؟ المأساة أننا نعيش على أفكار مات أصحابها، ونميت أنفسنا فى سبيل إحياء ما قد عفا عنه الدهر!
وقد طالب الباحث الموقر ناجح إبراهيم فى مقالة بالشروق «مساحة فى عقل شاب سلفى» (5 فبراير 2016) بضرورة «النظر والتأمل فى علل الأحكام لتطوير الفكر السلفى» (المتجمد)، فطرح الحديث الذى نهى عن حمل المصحف إلى بلاد غير المسلمين حماية له من الإهانة، واعتبر «أن هذا النهى لا محل له الآن، (لأن المصحف يطبع ويوزع فى أوروبا وأمريكا وغيرهما)، ولأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.. وهذا مثال فقط لدوران الحكم مع العلة ووجوب قراءة الواقع التى تعمل فيها النصوص».
وفى مقالة أخرى بالأهرام: «فقه السياسة السنى بين النص والواقع» (د. على مبروك، 13 فبراير 2016)، أجزم بأن المجال السياسى فى المذهب السنى استدعى وجوب تطويع النصوص لكى تتسع لحركة الواقع، وضرب مثالا لتطويع «الدينى» لحساب «الواقعى» بالحديث: «إنما الأئمة من قريش».
ويرى أن اشتراط النسب القرشى للإمامة، لأنهم أهل العصبية القوية حتى لا تتفرق وحدة الأمة، ولهذا «فإن ابن خلدون جعل النسب القرشى مشروطا بما كان عليه الواقع، ومن دون أن يكون شارطا له أبدا».
وفى هذا السياق، نعيد النظر فى حديثين يمسان واقعنا الحاضر: الأول قول النبى (ص): «تناسلوا تكاثروا فإنى مباه بكم يوم القيامة»، هذا عندما كانت الأمة الإسلامية لا تزيد على بضعة آلاف، فكانت دعوته لـ«لكم» لأن «الكيف» فى أحسن حالاته، ولكن المعادلة الآن معكوسة، «الكم» كثير تخطى المائة مليار فى العالم، بينما الكيف فى أسواء حالاته، ومنهم عدد كبير من الدواعش والإخوان والمتطرفين...، وقلة من المتنورين الذين يعكسون صحيح الإسلام من عدل وتسامح وأخوة وعمل جاد، هكذا لم يعد هناك صحة للمطالبة بزيادة التكاثر، ولكن الضرورة أصبحت فى تحسين بناء وتكوين الفرد المسلم.
وعن الحديث: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما»، إذا نظرنا إلى مقاصد الشريعة وأهمها الحفاظ على مصادر الأمة خاصة إذا كانت فى أزمة اقتصادية عنيفة كالتى يمر بها الوطن، فمن واجبنا أن نعيد التفسير حتى لا يتعارض مع استقرار الأمة.
أولا النبى (ص) ــ صاحب الرسالة ــ أدى حجة واحدة، وثانيا العمرة سنة وتكرارها يقع فى نطاق الكراهية، لإضراره بالاقتصاد الوطنى، والمستحب أن نكتفى بواحدة، فنساعد على توفير النقد الأجنبى لدولة مديونة بالمليارات، ومن يريد كسب رضاء الله عليه التبرع بتكلفة العمرة إلى المستشفيات الحكومية التى تعانى نقصا مخزيا فى علاج أبناء وطننا، فهذا أنفع ألف مرة عند الله من تكرار الحج والعمرة.
هكذا يجب أن يكون الخطاب الدينى بأهدافه وآلياته الواضحة، تسرى دماء التجديد فى عروقه، ويعمل دائما من أجل الكشف والاستكشاف لصالح الأمة والمجتمع.
كما نؤكد أن «دعوة تجديد الخطاب الدينى» ليس المقصود بها فئة واحدة، ولكن كل الشعب المصرى مطالب بها «مسلمون ومسيحيون»، فلن ينسى المسيحيون المتنورون واقعة الكاهن الذى رفض الصلاة على المتوفى لأنه من كنيسة أخرى! فتدافع إخوته المسلمون يرغبون الصلاة عليه فى مساجدهم، دليل قاطع على أن أبناء الصعيد ليسوا جميعا من فئة المعتدى على سيدة عجوز، ولكن أغلبهم «مسلمون ومسيحيون» تجرى فى عروقهم الشهامة والرجولة، وأن ما أصاب الصعيد هو ما أصاب مصر كلها عندما تدنى مستوى التعليم فى كل ربوعها، فحلت الكوارث التى تعيشها فى الحاضر، فهل من مستجيب؟