هذا العام منحت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم جائزة نوبل فى الاقتصاد للاقتصادى «ريتشارد ثالر» الذى اشتهر بكونه مؤسس علم الاقتصاد السلوكى. وفقا لـ«روبرت شيلر» الحائز على ذات الجائزة عام 2013 بلغت نسبة حاصدى نوبل فى علم الاقتصاد نتيجة لمساهمتهم فى مجال ما بات يعرف بالاقتصاد السلوكى نحو 6% من إجمالى من حصلوا على الجائزة منذ تدشينها عام 1969، من هؤلاء «جورج أكيرلوف» و«روبرت فوجل» و«دانيال كانمان» و«إلينور أوستورم» بالإضافة إلى «روبرت شيلر» ذاته. وإذا توسعنا فى استيعاب مفهوم الاقتصاد السلوكى لضم اقتصاديى المعلومات والعقود.. وغيرهم من الاقتصاديين الذين يهتمون بتباين ردود الأفعال البشرية، وتجمعهم فكرة مشتركة مفادها الشك فى رشادة الفرد كوحدة اقتصادية، وتعدد صور الانحيازات والانحرافات فى قراراته، لربما اكتشفنا أن نوبل فى الاقتصاد صارت حكرا على هذا الفرع السلوكى خلال العقدين الماضيين!
الاقتصاد السلوكى هو فرع من علم الاقتصاد، يهتم بتحليل الجوانب النفسية للأفراد لدى اضطلاعهم بعملية اتخاذ القرار الاقتصادى كالاستهلاك أو الادخار أو الاستثمار، بما يتضمنه ذلك من أهمية للسياق الذى يتخذ فيه القرار، والمؤثرات النفسية الداخلية لمتخذ القرار، والتأطير الخارجى للبيئة المحيطة به،
فضلا عن الإشارات التى يمكن للطرف الآخر كالمؤسسات والحكومات والبائعين.. أن يرشدوا خلالها متخذ القرار إلى وجهة معينة.
بهذا المفهوم يصبح المدخل التاريخى الواقعى لجمع وتحليل ونمذجة البيانات أهم من المدخل الرياضى الصرف، الذى غلب على المؤلفات الاقتصادية خلال عقود طوال، فى محاولة يائسة لاحتواء علم الاقتصاد (الإنسانى بطبعه) داخل المعمل، وإخضاعه قسرا لأدوات العلوم الطبيعية. وتصبح الاختبارات النفسية والسلوكية مصدرا معتبرا للبيانات المطلوبة لتفسير ظاهرة اقتصادية، واتخاذ قرار، أو إطلاق سياسة.
***
تكرار منح نوبل لأصحاب النظريات الحديثة سواء المتعلقة بالاقتصاد أو التمويل السلوكى أو اقتصاديات المعلومات، له دلالة على مزاج عام يجتاح الأكاديمية يحمل بذور الثورة على الاقتصاد التقليدى، ويفسح المجال للنظريات الحديثة التى أرى أن لها قدرة تفسيرية رائعة للواقع لكنها تفشل فى التنبؤ والتقدير لكثير من الظواهر الاقتصادية والمالية، ببساطة لأنها تؤكد عدم وجود معايير حاسمة للتنبؤ بالسلوك البشرى. فالبشر لا يتصرفون كالآلات ولا يستجيبون للمحفزات الخارجية وفقا لنمط واحد، بل إن الشخص الواحد تختلف استجابته لذات المحفز باختلاف الحالة النفسية والمزاجية. وفقا لـ«ثالر» فالأفراد يميلون إلى المبالغة فى ردود الفعل، وهذا العيب السلوكى يمكنه تفسير تقلبات بعض أسواق المال، وموسمية تلك التقلبات، فهل يساعدنا هذا الاكتشاف على التنبؤ بطبيعة وحجم هذا التباين؟! بالتأكيد هناك قيمة مضافة كبيرة لهدم مسلمات خاطئة كانت تستخدم لتفسير ظواهر اقتصادية بثقة كبيرة، على الأقل لإفساح المجال أمام فهم أكبر لتلك الظواهر والتوصُل لاحقا إلى أدوات ناجزة للتنبؤ بها، وتحقيق النفع العام من هذا التكوين المعرفى والذى هو الغاية الأكثر نبلا لعلم الاقتصاد.
عندما تتخذ قرارا بشراء سيارة جديدة فإن الاقتصاد الكلاسيكى يخضع قرارك لفرضية بسيطة هى أنك مستهلك رشيد تميل إلى تعظيم منفعتك، وبعملية آلية تقيم المنفعة مقابل السعر ويكون القرار بالشراء أو الامتناع عن الشراء. بالقطع لم يكن الاقتصاديون الكلاسيك غافلين عن تعقيد العامل البشرى، وعن الطبيعة البشرية المعقدة التى من المحتم أن تلقى بظلالها على عملية اتخاذ القرار. لكنهم آثروا تحييد هذا التعقيد، وافتراض الرشادة تماما كما تفعل النظرية حينما يفترض صاحبها «ثبات العوامل الأخرى»، وهى فى كل الأحوال غير ثابتة ولا ينبغى لها أن تثبت! هذا لأن الاقتصاديين «اللاسلوكيين» (إن جاز الوصف) أرادوا وضع الفكرة الاقتصادية تحت المجهر، وإلقاء الضوء على عناصر المشكلة الأكثر ارتباطا بمفاهيم الاقتصاد، ذلك العلم الناشئ الذى أسس منتظما بالكاد عام 1776. هم فى كل الأحوال يحاولون عزل المشكلة بأسلوب علمى، مع تقدير هامش للخطأ والانحراف نتيجة غياب اليقين الفيزيائى فى العلوم الإنسانية عامة.
لكن الاقتصاد السلوكى انجرف بعض أقطابه خلف تناقضات النفس البشرية، واستهلكته الاختبارات النفسية بصورة أفرغته تقريبا من أى مضمون اقتصادى يذكر. سواء النظريات التى يمكن أن تندرج تحت عنوان «اتخاذ القرار»، أو تلك التى تشملها «اللعبة السلوكية» فالتركيز دائما على تناقضات القرار البشرى، ومحاولة إسقاط فرضية الرشادة، بغرض هدم تلك الفرضية، والتى ما إن انهدمت حتى سقط ميراث كلاسيكى كبير من النظريات التى تنضوى تحت لواء الاقتصاد التقليدى، لأن النظرية صحيحة فقط بصحة فروضها.
***
هذا السعى لإسقاط «الرشادة» يخلو من الرشادة، يضرب إسفينا فى أساس علم الاقتصاد، وكثير من العلوم الإنسانية التى تحاول استخلاص أنماط بشرية قابلة للتوقع والتنبؤ. يناقض الاقتصاد السلوكى نفسه حينما يحاول استخلاص نمط لانحراف السلوك، ثم يناقض نفسه بكشف صور حادة لما يصفه بالقرارات غير الرشيدة أو المنحازة، وتفسير أسباب هذا الانحياز باعتباره إنجازا، لأن الإنسان هذا الكائن المعقد ما إن ينظر إلى تلك التناقضات ويدرك أسبابها، حتى يجنح بسرعة إلى تعديل استجابته، هذا ديدن علوم الإنسان، تراه يغير سلوكه إذا اكتشف أنه يخضع للمراقبة. الأمر أشبه بالنظر من نافذة إلى المستقبل، فإن استطعت ــ نظريا ــ أن ترى جانبا منه فإنه بالطبع سوف يتغير، لأنك سوف تعدل سلوكك لتعديل هذا الجانب.
الاقتصاد السلوكى يرى أن الإنسان يبنى قراراته متأثرا بالوضع الراهن، ومؤثِرا للحاضر على المستقبل، خاصما للقيمة المستقبلية لصالح القيمة الحالية، ومميزا للنقود وفقا لمصدرها ووفقا لمصارفها، فالنقود المخصصة للعطلة يصعب إنفاقها، وكذلك مكافأة العمل، بعكس نقود اليانصيب، وتلك المدخرة لما بعد التقاعد.
الاقتصاد السلوكى يميز بين نظامين لاتخاذ القرار، أحدهما عشوائى حدسى وتلقائى يخطئ كثيرا لتأثره بالأهواء، ونظام آخر أكثر تعقيدا وبطئا فى عملية اتخاذ القرار. فى مثال السيارة السابق فإن المشترى سوف يميل إلى تفضيل نوع السيارة التى بحوزته، يتأثر بالماركة، وبخبرات بسيطة يمكن استرجاعها بسرعة من ذاكرته. لكن هذا فى رأيى لا يتناقض مع فرضية الرشادة، والتى يختزلها الاقتصاد السلوكى فى نمط مجرد آلى وأنانى لاتخاذ القرار. فقرارك رشيد بقدر ما يحقق لك النفع بمفهومه الشامل، الذى يتضمن السهولة والسرعة والراحة النفسية وليس فقط الحسابات المجردة للعائد والتكلفة. يمكنك أن تعتمد على الأعداد الكبيرة فى بيئة تجمعها قواسم مشتركة، لكى تستخلص اتجاها ونمطا لعملية اتخاذ القرار، مقرا بهامش من الخطأ والفروق الفردية، والانحرافات عن الخط العام. لكن يمكنك أيضا أن تفترض استحالة التقدير، وشيوع الفوضى وعشوائية السلوك بدرجة تسقط الحاجة إلى المعرفة!
ما أخشاه هو ارتماء علم الاقتصاد مجددا فى أحضان فرع آخر من العلوم، وإغلاق الباب أمام تطويره بصفة مستقلة، فالاقتصاد كعلم غالبا ما يزدهر متصلا بعلم آخر أو مجموعة من العلوم. فهو صنو للعلوم السياسية والقانونية عند اقتصاديى الاقتصاد السياسى، وهو فصل فى كتابى الرياضيات والإحصاء عند اقتصاديى الاقتصاد القياسى، خاصة أولئك المغالين فى تحويل أى ورقة اقتصادية إلى شبكة من المعادلات الرياضية التى لا يستخلص منها فى الغالب سوى نتيجة بديهية، توصل الباحث إليها مسبقا ثم أراد تأصيلها وإثباتها بإخضاع واستنطاق المعادلات! اليوم ألمس اتجاها لتزويج علم الاقتصاد بعلم النفس السلوكى، وبعث جميع النظريات الاقتصادية صفا أمام عيادة الطبيب النفسى الذى يجيز منها بقدر ما يمر المريض باختبارات الانضباط السلوكى، فيهدمها جميعا أو فى القليل يشكك فيها، لأنه يشكك فى القدرة على استخراج أنماط سلوكية منضبطة من الوحدة الاقتصادية الأهم وهى الإنسان، الذى هو المستهلك والمنتج فى نظريات الثمن، وهو المستثمر والمدخر فى النظرية الرأسمالية، وهو العامل فى النظرية الماركسية وما نتج عنها من نظريات.
***
«تفاسير» الاقتصاد السلوكى تم استثمارها فى مجالات التسويق والتعليم والصحة والسياسة العامة، بل وقامت حكومات دول كبرى بتكوين وحدات معنية بهذا النوع من التحليل فى دواوينها، لكن بالطبع ليس على طريقة الدكتور «خشبة»! تلك الشخصية المرحة التى جسدها الفنان عبدالمنعم مدبولى فى أحد الأفلام. «خشبة» طبيب نفسى اعتاد معالجة مرضاه بالإيحاء، لدرجة أنه ألزم رجلا يعانى أزمة نفسية بسبب قصر قامته بتكرار عبارة «أنا مش قصير قزعة أنا طويل وأهبل». هناك فعلا من يظن أن الاقتصادى «المتفائل» يمكنه أن يقنع الناس بعكس ما يشعرون به ويدركونه بحواسهم، وأن هذا هو أعظم ما يمكن استخلاصه من الاقتصاد السلوكى! واقع الأمر أن الإنكار هو مرض نفسى فى ذاته، ولا يمكن لحامله أن يعالج مرضا اقتصاديا، بل إن الاقتصادى المتفائل هو الذى يقر بالأزمة الراهنة وبصعوباتها، ويمنح الأمل فى الخروج من تلك الصعوبات، فإذا كان صادقا وموضوعيا أعطى تصورا واقعيا للخروج من الأزمة، فضلا عن الإشارات الإيجابية التى تساعد الناس على تجاوز مرحلة الضغط الاقتصادى والنفسى فى آن.