اقتصاد الأرجنتين.. أين يتجه؟ - مدحت نافع - بوابة الشروق
الثلاثاء 24 ديسمبر 2024 3:30 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اقتصاد الأرجنتين.. أين يتجه؟

نشر فى : الإثنين 16 ديسمبر 2024 - 8:15 م | آخر تحديث : الجمعة 20 ديسمبر 2024 - 11:59 ص

 

حينما يتحدث الرئيس الأرجنتينى «خافيير مايلى» فإنه يعطى انطباعا للمستمع أن خطة التقشّف الحكومى التى اتبعها منذ أن تولّى السلطة فى 19 نوفمبر 2023 تصنع المعجزات. الرئيس وأستاذ الاقتصاد «مايلى» قلّص حجم الحكومة، وخفّض الإنفاق العام، وتوقّف عن طباعة البنكنوت للحد من التضخم والتعامل مع العجز المزمن فى الموازنة العامة، وقد نجح فى تحقيق ذلك إلى حد بعيد، لكن الاقتصاد دخل فى حالة من الركود، ومعدلات الفقر والبطالة ارتفعت، وتعددت المخاطر المحيطة بالبرنامج الإصلاحى.

•  •  •

يبلغ الناتج المحلى الإجمالى للأرجنتين حوالى 640 مليار دولار أمريكى، وتعد بذلك واحدة من أكبر الاقتصادات فى أمريكا اللاتينية. وإذ تتمتع الأرجنتين بموارد طبيعية هائلة فى مجالى الطاقة والزراعة، فإن أراضيها، التى تبلغ مساحتها 2,8 مليون كم2، تحظى بخصوبة استثنائية، وتحوى احتياطيات كبيرة من الغاز والليثيوم، وتمتلك إمكانات متميزة لتوليد الطاقة المتجددة. تعد الأرجنتين منتجا رائدا للغذاء والصناعات الزراعية والحيوانية. بالإضافة إلى ذلك، تتمتع الأرجنتين بفرص كبيرة فى الصناعات عالية التكنولوجيا.

فى السنوات الأخيرة، واجهت الأرجنتين أزمة اقتصادية واجتماعية اتسمت بارتفاع التضخم، وتآكل قيمة العملة الوطنية، وانخفاض الأجور الحقيقية، وتزايد نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر. انكمش اقتصاد الأرجنتين بنسبة 1,6% فى عام 2023، بسبب اختلالات الاقتصاد الكلى المستمرة والجفاف الشديد الذى أدى إلى انخفاض الإنتاج الزراعى بنسبة 26% عن العام السابق. ومن المتوقع أن يواصل الاقتصاد انكماشه بنسبة 3,5% فى عام 2024 بعدما حقق ركودا لفترتين متتاليتين على أساس ربع سنوى منذ بداية العام الحالى، كأحد الأعراض الجانبية لبرنامج التثبيت والاستقرار الاقتصادى الذى يتضمن إعادة تنظيم الأسعار والقضاء على الاختلالات المالية والعجز الخارجى.. لكن الحكومة تتوقّع نمو الاقتصاد بنسبة 5% فى عام 2025، مدفوعًا بتحسن الظروف الجوية والاستثمارات فى قطاع الطاقة وتحسين الإنتاج الزراعى.

وإذ تهدف الأرجنتين إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادى من خلال الانضباط المالى، وضبط المعروض النقدي، وإدارة الديون.. فإن مخاطر تغير المناخ المتمثّلة أساسا فى تراجع معدلات هطول الأمطار، فضلاً عن صعوبة الوصول إلى الائتمان الدولى تشكلان معا أبرز العقبات الحرجة أمام الدولة. وتخضع الأرجنتين حاليا لاتفاق تسهيل الصندوق الممتد (EFF) لمدة 30 شهرًا مع صندوق النقد الدولى. وفى يونيو 2024، أكمل المجلس التنفيذى لصندوق النقد الدولى المراجعة الثامنة للبرنامج. وتماشيا مع البرنامج الجديد للحكومة، يركز برنامج تسهيل الصندوق على تنفيذ خطة لضبط أوضاع المالية العامة بهدف تحقيق فائض أولى بنسبة 2% من الناتج المحلى الإجمالى بحلول عام 2024.

حقق برنامج الاستقرار نتائج أولية جيدة على الصعيد المالى وعلى معدلات التضخم الذى كان قد تجاوز 250% سنويا! إذ نجحت الأرجنتين فى تحقيق فائض مالى بالموازنة العامة للدولة خلال الفترة بين يناير وسبتمبر 2024، وذلك لأول مرة منذ عام 2008. كما انخفضت مخاطر الدولة، من 2100 نقطة فى يناير إلى 1280 فى أكتوبر 2024. ومع ذلك، تظل واحدة من أعلى المعدلات فى المنطقة. كما تراجع التضخم «الشهرى» من أعلى مستوى بلغه فى ديسمبر 2023 مسجلا 25,5% (ما يقرب من التضخم السنوى فى مصر) إلى 4,2% فى أغسطس 2024. ولتخفيف معاناة الفقراء من تداعيات برنامج التقشف والتثبيت نفذت الحكومة تدابير الحماية الاجتماعية تضمنت زيادات فى المزايا الاجتماعية للفئات الأكثر هشاشة فوق معدل التضخم.

•  •  •

على الصعيد النقدى، أعلنت حكومة الأرجنتين عن بدء «المرحلة الثانية» من خطتها الاقتصادية، بهدف الحفاظ على استقرار المعروض النقدى. ومع انخفاض التضخم وانتعاش النشاط الاقتصادى، من المتوقع أن يزداد الطلب على «البيزو» الأرجنتينى. وبذلك، تتوقع الحكومة أن يتقارب سعر الصرف الموازى مع السعر الرسمى. منذ أواخر عام 2019، فرضت الأرجنتين ضوابط على العملة، مما أدى إلى انقسام فى التعامل على الصرف الأجنبى بين سوق رسمية (حيث تحدث معظم عمليات التجارة الخارجية) وسوق موازية (حيث تتم بقية العمليات المالية بشكل أساسي). قبل التغيير الحكومى وانخفاض قيمة العملة فى ديسمبر 2023، كان سعر الصرف الموازى 930 بيزو مقابل الدولار الأمريكى، بينما كان السعر الرسمى 360 بيزو مقابل الدولار، مما يمثل فجوة فى سعر الصرف بنسبة 158٪.

وبحلول نهاية سبتمبر 2024، بلغ السعر الرسمى 970 بيزو للدولار، فى حين بلغ سعر الدولار الموازى 1230 بيزو للدولار، وهو ما يمثل انخفاضاً كبيراً فى الفجوة إلى 27%، ويرجع هذا فى الأساس إلى خفض العجز المالي، والسيطرة على المعروض النقدى، وتدخل الحكومة فى السوق الموازية. ويؤدى هذا الانخفاض فى الفجوة إلى زيادة إمكانية توحيد وتحرير سوق الصرف نسبيا. وإذا لم يتم التعامل مع هذا التعدد فى أسعار الصرف الأجنبى، فإن الأزمة الأساسية التى تواجهها البلاد هى عزوف تدفقات الدولار للاستثمار، وبالتالى التأثير سلبا على نمو البلاد فى الأمد البعيد.

ولتعزيز تحديد المعروض النقدي، تعهدت الحكومة بتعويض كمية الأموال الصادرة من شراء العملات الأجنبية مع الحفاظ على فائض مالى. وهذا يعنى أن البنك المركزى الأرجنتيني سيكون لديه القدرة على التدخل فى الأسواق المالية لمنع سعر الصرف من الارتفاع، بحيز بلغت قيمته 1,8 مليار دولار أمريكى (منها 480 مليون دولار أمريكى تم استخدامها فى شهرى يوليو وأغسطس). وعلاوة على ذلك، أصدرت الحكومة أوراقا مالية لامتصاص البيزو المتبقى من اتفاقيات إعادة الشراء، والأوراق المالية بين البنوك التجارية والبنك المركزى الأرجنتيني، وبما يضمن (مع الإصلاح الضريبى) أن الفائدة على هذا الدين ستسدد من حصيلة الضرائب وليس من النقود المصدرة حديثا.

•  •  •

خلال العام القادم تواجه الأرجنتين مخاطر نقص هطول الأمطار، على الرغم من التوقعات بحدوث ظاهرة النينا المعتدلة، إذ تتوقع هيئة الأرصاد الجوية الوطنية هطول أمطار أقل من المتوسط خلال عام 2025. يمكن أن يؤثر عجز هطول الأمطار على صادرات البلاد، وبالتالى على فائض الميزان التجارى، والاحتياطيات من النقد الأجنبى، مما يعقّد من جهود إدارة سعر الصرف. كما تواجه الحكومة ملف استحقاق ديون صعبا لعام 2025، إذ تشكّل الديون المقومة بالعملة الأجنبية حوالى 56٪ من إجمالى الديون، وهى عادة ما تكون أصعب فى التجديد مع تزايد مخاطر الدولة (سالفة الإشارة) التى تجعل من غير الملائم الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية. أما الديون المحلية فهى أسهل فى التعامل معها، لكن يظل تمويلها من المتحصلات الضريبية رهنا باستعادة عافية النشاط الاقتصادى والتخلّص من الركود المسيطر على الأسواق، حتى لا تموّل تلك الديون بمزيد من الضغوط التضخمية (عبر طباعة البنكنوت من جديد).

من بين الديون الخارجية تبرز الديون المستحقة لصندوق النقد الدولى، والذى تم توقيع الاتفاقية السارية معه فى مطلع عام 2022، بهدف إعادة تمويل استحقاقات القرض السابق البالغ 44 مليار دولار أمريكي، والذى اقترضته البلاد فى عام 2018. كذلك هناك عقود مبادلة ديون مع الصين تبلغ قيمة الجزء النشط منها 5 مليارات دولار تم تمديدها لمدة عام. وقد سمح تمديد الشريحة النشطة من مبادلة العملة لبنك الاحتياطى الفيدرالى الأرجنتينى بمواصلة الحد من المخاطر، وتحسين شروط ملف التزاماته بالعملة الأجنبية. وعلى الرغم من الأداء المالى القوى حتى الآن، لم تتمكن الأرجنتين من الحصول على الدولارات اللازمة لإعادة بناء الاحتياطيات بمستوى يضمن سداد الالتزامات للعام القادم. وبعد تراكم قوى للعملة الأجنبية فى الأشهر الخمسة الأولى من عام 2024، تباطأ هذا التراكم بسبب ارتفاع حجم الواردات فى السوق الرسمية.

•  •  •

إن نجاح الحكومة فى تنفيذ استراتيجيات لتثبيت المعروض النقدى وتخفيض معدلات التضخم وتحسين إدارة الديون والسيطرة على سعر الصرف سيكون حاسما فى تحقيق التعافى الاقتصادى والنمو المستدام. ورغم التحديات التى تواجه خفض النفقات الحكومية، فقد تم تنفيذه بشكل جرىء وتحقق فائض تاريخى فى الموازنة العامة، ولكن استدامة تلك النجاحات لا تزال غير مؤكدة فى ظل ارتفاع التكلفة الاجتماعية للتقشف الحكومى، والمخاطر البيئية والائتمانية التى تم الإشارة إليها. 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات