«اقتصاديات ترامب» أو «الاقتصاد الترامبى» Trumponomics مصطلح أخذ يتسلل فى الفترة الأخيرة بين الكتابات الرائجة، ليدل على نهج خاص للرئيس الأمريكى الحالى فى إدارة الاقتصاد المحلى والعلاقات الاقتصادية الخارجية للولايات المتحدة؛ على غرار ما جرى خلال الثمانينيات من القرن المنصرم، إزاء مصطلح «الاقتصاد الريجانى» Reaganomics فيما يتعلق بالرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان.
ولطالما أشار المحللون إلى سلوك الإدارة الأمريكية الحالية باعتباره سلوكا متهورا. ولا نبرئ أنفسنا، فقد فكرت فى عنوان لمقال هكذا: (الاقتصاد السياسى للتهور). والحق أنه إن كان هناك ميل ترامبى للتهور، فهو تهور مبرر إلى حد، وبمعنى معين، لأنه تهور القويِ حين يغتر بقوته الحقيقية.
ومعلومٌ أن الرئيس الأمريكى قد أعلن إجراءاته التجارية (العقابية) إزاء الشركاء التجاريين للولايات المتحدة فى الثامن من شهر مارس 2018، بدءا من فرض الرسوم الجمركية الإضافية على واردات الصلب والألومنيوم بنسبة 15% و10% على التوالى. وما فتئت إجراءاته والإجراءات المضادة، من جانب الصين والاتحاد الأوروبى، تترى وتتوالى.
فإلى أى حد يستند ذلك «التهور» إلى ركيزة أو ركائز من واقع العلاقات الاقتصادية المقارنة؟ هذا ما نناقشه هنا. ونشير إلى ثلاث نقاط مبثوثة فى تقارير أخيرة للمنظمات الاقتصادية الدولية المعنية، وخاصة «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» ــ الأونكتاد، وبصفة أخص: تقريره الأخير لعام 2018، المعنون: «القوة والمنصات وأوهام التجارة الحرة». ومنه ندلف إلى النقاط الثلاث المشار إليها.
أولاها: التباطؤ فى نمو الطلب العالمى، وخاصة على جانب الواردات. إذ تدل الشواهد المتاحة على حدوث تباطؤ ملحوظ فى نمو الواردات. وكانت الدول النامية (الديناميكية) هى المحرك الأكبر للزيادة فى الطلب الاستيرادى العالمى، وقد تَرَكزتَ هذه الزيادة، فى المحل الأول، لدى الدول الناهضة صناعيا فى شرق آسيا والتى حققت معدلا للنمو الاستيرادى بنسبة 8,8% فى العام (2017) تليها أمريكا اللاتينية (6,2%)، وكانت الولايات المتحدة صاحبة أعلى معدل للنمو الاستيرادى بين الدول المتقدمة بنسبة 4%، ولعلها أكبر سوق استهلاكية لدولة منفردة فى العالم، مقابل 3,1% لدول منطقة «اليورو».
ولكن بيانات (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية – أنكتاد) عبر الشهور الأربعة الأولى من العام 2018 تشير إلى تراجع مكانة شرق آسيا كمصْدر رئيسى للطلب، بفعل تباطؤ النمو الاستيرادى فى الصين بصفة أساسية، وخاصة من جراء تراجع الطلب على الواردات الاستثمارية فيها.
كما أن الطلب العام أو الحكومى، على المستوى العالمى، يتقلص بفعل انتشار سياسات «التقشف المالى» التى ينتهجها عدد متزايد من الدول المتقدمة والناهضة صناعيا، أما الطلب الخاص فيتقلص بفعل انخفاض الدخول الحقيقية للمشتغلين فى مختلف دول العالم، بما فيها الدول المتقدمة والولايات المتحدة، لأسباب راجعة فى جانب منها إلى الأثر السلبى للتقدم التكنولوجى ــ الرقمى ــ على هيكل قوة العمل: حيث لم تستطع الاقتصادات المتقدمة والناهضة حتى الآن تعويض النقص فى العمالة التى جرت إزاحتها بفعل الآليات الرقمية، بزيادة موازية فى التشغيل خلال الأجل القصير والمتوسط. وكانت راجعة فى جانب آخر، إلى انتشار «السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة» أو « النيو ــ ليبرالية» والتى تحمل تحيزا لصالح «حملة الأسهم» مقابل كاسبى الأجور من العمال والمشتغلين.
وهكذا يمكن الإشارة إلى أن تقلص أهمية الواردات وتناقص أهمية الطلب المحلى لدى الدول الرئيسية، وخاصة الصين، يقابله استمرار الدور المحورى للسوق الاستهلاكية المحلية للولايات المتحدة الأمريكية كمصدر رئيسى لنمو الطلب العالمى .
وهنا يشير تقرير «الأونكتاد» عن «التجارة والتنمية 2018» إشارة ذات مغزى، إلى القول بأن «تهديد الولايات المتحدة برفع الأسوار العريضة للحمائية يمكن أن يكون له أثر محتمل أشد ضررا على النمو فى مناطق العالم الأخرى، لكونه يأتى فى وقت يشهد بالفعل تراخيا فى الطلب العالمى».
***
النقطة الثانية فى هذا المقام، هى تزايد الأهمية النسبية للصادرات كمحرك للطلب العالمى. وقد قام (الأونكتاد) بمسح لعينة من 30 دولة، ووجد أنه من بين الـ30 دولة فإن هناك 19 دولة يعتمد النمو الاقتصادى فيها على الصادرات الصافية بأكثر من الطلب المحلى. وغالبية الدول المعتمدة على فائض التصدير كمحرك للنمو، تتشكل من الدول المتقدمة والنامية الناهضة صناعيا. فمن الدول المتقدمة: المملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا وفرنسا، ومن الدول النامية الناهضة صناعيا: كوريا الجنوبية والمكسيك وتركيا وإندونيسيا والهند.
والخلاصة أن منحنى العلاقة بين التجارة الدولية والنمو الاقتصادى فى العالم يميل بشكل عام وفى أغلب تجارب التنمية إلى تفوق المكون التصديرى للتجارة بالمقارنة مع المكون الاستيرادى، وأن الطلب على الواردات لا يمارس دوره كمتغير حاكم للنمو سوى فى أقلية من الدول المتقدمة (فى طليعتها الولايات المتحدة) والدول الناهضة صناعيا (فى مقدمتها الصين).
***
النقطة الثالثة، تتعلق بهيمنة الولايات المتحدة على عملية إنتاج التكنولوجيا المتقدمة فى أحدث أطوارها على مستوى العالم، وهى تكنولوجيا العصر الرقمى، لدرجة ممارسة قوة احتكارية هائلة بالمقارنة مع سائر الدول المتقدمة والدول النامية الناهضة الأخرى.
ويلاحظ هنا أن أكبر المنصات الرقمية للأسواق التجارية فى العالم، وأكثرها قوة، تقع مقارها بصفة غالبة فى الولايات المتحدة. ونقصد هنا المنصات الخمس، بالترتيب التنازلى من حيث القوة: أمازون، على بابا، جوجل بلاى، متجر تطبيقات آبل، أوبر. فهى كلها تنتمى إلى الولايات المتحدة ماعدا واحدة (على بابا – من الصين). وبالمثل فإن منصات الأسواق الدولية الرئيسية للخدمات مقامة فى الولايات المتحدة ثم أوروبا وآسيا، وتتعامل بصفة رئيسية فى مجال التمويل والإسكان والفندقة واللوجيستيات والنقل.
وإن سبعة من بين أكبر 11 منصة للمدفوعات مقامة فى الولايات المتحدة، والبقية فى الاتحاد الأوروبى. وأكبر أربع منصات للمال والتى استقبلت أكبر قسط من تمويل الاستثمارات كان من بينها ثلاث منصات من الولايات المتحدة (أوبر، Airbnb، Lyft ) وواحدة فقط فى الصين (ديدى Didi chuxing).
وتتضح هيمنة الولايات المتحدة أيضا فى مجال منصات التواصل الاجتماعى، حيث الأربعة الكبار منها كلها تأتى من هذا البلد، وهى: فيس بوك، تويتر، يوتيوب، إنستجرام. والاستثناء الوحيد هو الصين التى استطاعت أن توسع منشآتها التواصلية الخاصة من خلال منع الشركات العالمية من الدخول إلى سوقها المحلية.
وبالمثل فإن منصات البحث الإنترنتى الكبرى تسيطر عليها المنشآت الأمريكية وهى: جوجل، ياهو، بنج، ماعدا Baidu فى الصين، و Yandex فى الاتحاد الروسى.
ويصدق هذا أيضا على أنظمة الموبايل حيث تسيطر عليها ثلاثة بشكل تام، جميعها من الولايات المتحدة: أندرويد Android وتستحوذ على 81,7% كنصيب سوقى، ثم ios بنصيب 17,9%، وأخيرا «ويندوز» 0,3%. أما المنصات الرقمية الصناعية أو إنترنت الأشياء IOT فإنها تسيطر عليها أيضا الشركات من الولايات المتحدة ثم أوروبا.
***
ومن منظور آخر تتجلى القسمات الاحتكارية لأسواق التكنولوجيا، خاصة تكنولوجيا المعلومات، وفق الدول التى تنتمى إليها فى الأصل. حيث نجد فى الولايات المتحدة الأمريكية، ثمانى شركات هى: آبل، ألفابت، ميكروسوفت، فيس بوك، إنتل Intel، أوراكل Oracle، سيسكو سيستمز Cisco Systems، آى بى إم IBM. وفى أوروبا الغربية ككل ثمانى شركات أقل قوة. وفى الصين اثنتان: مجموعة على بابا + تنسنت القابضة. ومن كوريا الجنوبية شركة واحدة هى «سامسونج». ومن تايوان واحدة أيضا: «شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات» TAIWAN Semiconductor Manufacturing Company (TSMC). ومن جنوب إفريقيا، شركة واحدة.
ومن منظور ثالث، وفق «تقرير الاستثمار العالمى 2017» والمعنون «الاستثمار والاقتصاد الرقمى» Investment and The digital Economy فإن عدد شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الداخلة فى قائمة المائة شركة الكبرى فى العالم، لعام 2010 لم يزد على أربع شركات منها شركتان أمريكيتان هما آى. بى. إم / وشركة هيلويت – باكارد HelwetــPackard (HP). أما فى عام 2015 فقد تضمنت قائمة المائة شركة الكبرى عشر شركات، بزيادة فى العدد عن عام 2010 بأكثر من مرتين، منها ست شركات من الولايات المتحدة وحدها: ألفابيت (جوجل)، آبل، أى بى إم، ميكروسوفت، أوراكل، هيلويت – باكارد. فهل من بعد ذلك زيادة لمستزيد..؟
وألا يدلنا ذلك على أن لدى أمريكا «فائض قوة تكنولوجية»، بالإضافة إلى فائض قوتها العسكرية والدبلوماسية أيضا، بالإضافة إلى دورها «المتمم» كمستهلك ومستورد رئيسى فى الأسواق الدولية العليلة نسبيا لأوروبا والصين، على نحو ما أشرنا آنفا؟ فهذا هو الأساس الموضوعى لصعود «الرأسمالية المتهورة» فى نسختها الترامبية. ومعنى ذلك عموما أن لحظة غروب أو أفول الإمبراطورية ليس قريبا كما يُظَن، وأن وقت حلول «الأزمة العامة للرأسمالية» ــ بالمعنى الماركسى العام ــ لا يزال غير قريب، وإن ظلت الأزمات الدورية «سيدة الموقف» على كل حال، كالأزمة المالية 2008ــ2009 فى ماضٍ قريب.
ولكن الرأسمالية ليست «نهاية التاريخ» فى رأينا، وإن بدائل الرأسمالية أَرْجَح، من واقع الضرورة التاريخية المسنودة بالإرادة الإنسانية الساعية إلى الخير العام؛ وذلك من باطن الفكرة التقدمية الساعية إلى إزالة فجوة الفقر العالمى وتحقيق العدالة والمساواة الحقة بين الشعوب وبين القوى الاجتماعية فى كل وطن. لذلك، نرى أنه يجب تكثيف النضال العام من أجل تقريب يوم تخلق نظام اجتماعى عالمى جديد. وليكن ذلك من خلال تفعيل الإرادة التنموية فى أقاليم العالم الرئيسية على قاعدة من الكفاية والكفاءة والعدل. ولتكن البداية من إقامة كيانات تنموية حقيقية عبر الزمن، مثل بناء جماعة عربية تكاملية فعالة، بقدر الضرورة والإمكان.
أستاذ فى معهد التخطيط القومى ــ القاهرة