المجادلة - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الإثنين 17 مارس 2025 10:38 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

المجادلة

نشر فى : الإثنين 17 مارس 2025 - 5:25 م | آخر تحديث : الإثنين 17 مارس 2025 - 5:25 م

 

وفقًا لترتيب المصحف الشريف، تحمل السورة رقم ثمانية وخمسين، اسم «المجادلة»، بكسر الدال أو فتحه. وسميت كذلك، لأنها افتُتحت بقضية مجادلة امرأة، أوس بن الصامت، لدى النبى، صلى الله عليه وسلم؛ فى شأن مظاهرة زوجها لها بالقول: «أنت علىّ كظهر أمى»؛ ومحاورتها إياه فى ذلك، وقد أورد القرطبى، فى تفسيره، أنها امرأة من الأنصار، اختلف أهل العلم بشأن اسمها ونسبها. ما بين: خولة بنت ثعلبة، خُوَيلة بنت ثعلبة، أو خويلة بنت خويلد.

فى الآية الثامنة عشرة من السورة ذاتها، يقول الحق، تبارك وتعالى: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ»، وفى تفسيرها، يقول السعدى: يوم القيامة يبعث الله المنافقين جميعًا من قبورهم أحياء؛ فيحلفون له أنهم كانوا مؤمنين، كما كانوا يحلفون للمؤمنين فى الدنيا. ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله، مثلما كان ينفعهم فى الدنيا، وذلك مبلغ فى الكذب لم يبلغه سواهم. فكما أن المنافقين فى الدنيا يراوغون المؤمنين، ويحلفون لهم أنهم مؤمنون. فإذا كان يوم القيامة، وبعثهم الله جميعًا، حلفوا له كما حلفوا للمؤمنين، ظانين أنهم، بحلفهم هذا، على شىء. لأن كفرهم ونفاقهم وعقائدهم الباطلة، لم تزل راسخة فى أذهانهم، حتى غرتهم وظنوا أنهم على شىء يعتد به، ويعلق عليه الثواب. لكنهم واهمون، لأن الكذب لا ينطلى على عالم الغيب والشهادة.

كان إبليس اللعين هو أول مخلوق يباشر الجدال مع مولاه، عز وجل. وذلك حينما عصى أمره بالسجود لآدم، وطفق يجادل خالقه. وفى هذا، يقول تعالى على لسان، إبليس، فى الآية الحادية والستين من سورة الإسراء: «أأسجد لمن خلقت طينًا». أى: لمن خلقته من طين، أمرتنى بالمجىء به. وقد رُوى عن، سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن الله تعالى بعث، إبليس، حتى أخذ كفا من تراب الأرض، فخلق منه آدم. وفى الآية السادسة والسبعين من سورة ص، يقول المولى، عز وجل، على لسان إبليس، أيضًا: «أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ». وفى تفسيرها، يقول السعدى: يظن، إبليس، وهو يأبى طاعة ربه فى السجود لآدم، أن عنصر النار خير من عنصر الطين، وهذا قياس فاسد. ذلك أن النار مادة الشر، الفساد، العلو، الطيش والخفة. أما الطين، فهو مادة الرزانة، التواضع، وإخراج أنواع الأشجار والنباتات. وهو يغلب النار ويطفئها، والنار تحتاج إلى مادة تقوم بها، والطين قائم بنفسه. ومن ثم، فقياس إبليس باطل.

وصف المعبود، تقدست أسماؤه، الإنسان بأنه أشد المجادلين. حيث يقول تعالى فى الآية الرابعة والخمسين من سورة الكهف: «وكان الإنسان أكثر شىء جدلًا». والمعنى أن الإنسان هو أشد، مخلوقات الله، مجادلة ومنازعة فيه، بظلم وعناد. فلما كان أكثر شىء مراءً وخصومة، لا ينيب لحق، ولا ينزجر لموعظة. ولو جاءه العذاب، وناله ما أصاب من قبله، لم تكن هذه حاله. ويقول، بن زيد: الجدل، هو خصومة القوم لأنبيائهم، وردهم عليهم ما جاءوا به. وكان الإنسان أكثر المخلوقات خصومة وجدلًا.

لا يتورع الإنسان عن مجادلة ربه يوم الحساب. حيث يقول، جل شأنه، فى الآية الحادية عشرة بعد المائة، من سورة النحل: «يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ». والمعنى: يوم تأتى كل نفس مشغولة بأمرها، مهتمة بالدفاع عن ذاتها، دون التفات إلى غيرها، ساعية فى الخلاص من عذاب ذلك اليوم. فليس أحد يحاج عنها، لا أب، ولا ابن، ولا أخ، ولا زوجة. حيث تأتى كل نفس تخاصم عن ذاتها، وتعتذر بكل المعاذير؛ فتخاصم عن نفسها، وتحتج عنها بما أسلفت فى الدنيا من خير، أو شر، أو إيمان، أو كفر. والمجادلة هنا بمعنى: المحاجة، المدافعة، والسعى فى الخلاص من أهوال ذلك اليوم الشديد. والمتأمل فى هذه الآية الكريمة، يراها تشير، بأسلوب مؤثر وبليغ، إلى ما يعترى الناس يوم القيامة من خوف وفزع، يجعلانهم لا يفكرون إلا فى ذواتهم؛ حتى أنهم لا يكترثون بشأن آبائهم أو أبنائهم. وقد جاء فى الأثر، أن كل مخلوق يقول يوم القيامة: نفسى نفسى! من شدة هول ذلك اليوم العصيب؛ إلا، نبينا، صلى الله عليه وسلم، فإنه يقول: إمتى.. إمتى.

حول تفسير المجادلة عن النفس، يقول، الزمخشرى، صاحب «الكشاف»: الاعتذار عنها؛ كمثل قولهم فى الآية الثالثة والعشرين من سورة الأنعام: «والله ربنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ». وفى الآية الثامنة والثلاثين من سورة الأعراف: «هؤُلاءِ أَضَلُّونا». وفى الآية السابعة والستين من سورة الأحزاب: «إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا». وفى الآية الثانية والسبعين بعد المائة من سورة الأعراف: «إنا كنا عن هذا غافلين». ثم قولهم فى الآية الخامسة والستين من سورة التوبة: «إنما كنا نخوض ونلعب».

رُوى عن، عمر بن الخطاب، أنه قال لكعب الأحبار: خوَفنا ونبهنا. فقال كعب: والذى نفسى بيده، لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لأتت عليك تارات لا يهمك إلا نفسك. وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبى منتخب، إلا وقع جاثيًا على ركبتيه. حتى إن إبراهيم الخليل، ليدلى بالخلة فيقول: يا رب، أنا خليلك، لا أسألك اليوم إلا نفسى! فسأل عمر كعب، أين تجد ذلك فى كتاب الله؟ فأجابه، بالآية: «يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون».

عن هذه الآية، يقول بن عباس: «ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد. فتقول الروح: أى رب، الروح منك أنت خلقته، لم تكن لى يد أبطش بها، ولا رجل أمشى بها، ولا عين أبصر بها، ولا أذن أسمع بها، ولا عقل أعقل به». حتى جئت فدخلت فى هذا الجسد المارق، فضاعف له أنواع العذاب ونجنى. فيقول الجسد: رب، أنت خلقتنى بيدك فكنت كالخشبة، ليس لى يد أبطش بها، ولا قدم أسعى به، ولا بصر أبصر به، ولا سمع أسمع به. فجاء هذا كشعاع النور، فبه نطق لسانى، وبه أبصرت عينى، وبه مشت رجلى، وبه سمعت أذنى، فضاعف له أنواع العذاب، ونجنى منه". 

يذهب، ابن عباس، رضى الله عنه، إلى أن الآية الثامنة من سورة الحج: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ»، قد نزلت فى، النضر بن الحارث. وقد كان مناهضًا للإسلام ونبيه، صلى الله عليه وسلم؛ ويزعم أن القرآن أساطير الأولين، التى كان يحدث بها قومه، حول شئون القرون الماضية وأحوال الأمم الغابرة. غير أن بعض الراسخين فى العلم يرون أن هذه الآية تنطوى على نوعين من الجدال. أولهما، ممقوت ومحظور؛ وهو، الذى لا يستند على دلائل يقينية أو حجج موثوقة، بينما يستهدف تشويه الحق ومحقه. ومن ذلك قوله تعالى فى الآية الخامسة من سورة غافر: «وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ». وفى الآية السادسة والخمسين من سورة الكهف: «وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ». وفى الآية الثامنة والخمسين من سورة الزخرف: «مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ». والمعنى، حسب الطبرى: مع وضوح الحق، يأبى الكافرون إلا مخاصمة رسلهم بالباطل، تعنتًا؛ ليشوهوا الحق، الذى جاءوهم به من عند الله، ويمحقوه بباطلهم.

أما النوع الآخر من الجدال، فهو المباح. ذلك أن تخصيص المولى، جل وعلا، الحديث عن مجادلة مذمومة، يجافيها العلم، ويحاصرها الحمق؛ إنما يوحى بجواز مجادلة أخرى؛ تظلها الحكمة، ويزينها الحلم. وفى هذا، يقول، عز من قائل، فى الآية الخامسة والعشرين بعد المائة من سورة النحل: «وجادلهم بالتى هى أحسن».

التعليقات