رفضت السيدة العجوز أن تذوق سمك القراميط وسبّته لأنه أكل جدهم الأكبر، فى إشارة إلى قصة إيزيس وأوزوريس التى تروى أنه حينما قتل ست هذا الأخير ورمى جثته فى النيل، لم تقترب الأسماك من جسده إلا سمكة واحدة وهى القرموط. سجلت ذاكرتها لعنات الأهل تجاه هذا النوع من الأسماك الذى يفتقد إلى الوسامة، فهى تكره لونه الأسود وجسمه اللزج، خاصة حين يتلوى مثل الأفعى. كما أنها تعتبره شريرا مثل غيرها من البسطاء الذين يخافون من أعمال السحر الأسود، فنظرا لأنه يستطيع أن يتنفس خارج الماء ويبقى فى الهواء الطلق لمدة تقترب من ثلاث ساعات، استغل البعض هذه الخاصية وربطوا الطلاسم والتعاويذ فى رأسه المفلطح، ثم تركوه فى النهر لإلحاق الأذى بالآخرين، ما رسخ سمعته السيئة فى المعتقدات الشعبية. هذا بالإضافة إلى الأسماء التى التصقت به وساهمت فى تقليل شعبيته فهو يُعرف باسم «أبو شوارب» لامتلاكه أربعة أزواج من اللوامس الفمية التى تشبه شوارب القطط - لذا يطلق عليه بالإنجليزية والفرنسية «سمك القط» - وفى مصر يلقبونه أيضا بخنزير البحر لأنه يأكل القاذورات ويتغذى على أى شىء مثل القوارض والضفادع، ويعيش فى أى مياه عذبة مهما كانت غير نظيفة بسبب قوته وليونته وقدرته على التأقلم مع ارتفاع درجة الحرارة، فقد نجده فى المصارف والترع والمستنقعات.
تأرجحت علاقة المصريين به منذ القدم بين توجس وخشية وقبول، فوصفوا الشخص المراوغ بأنه «يتلعبط كالقرموط»، وجاء ذكره فى لوحة نارمر الشهيرة كدليل ربما على انتصار الملك ونجاحه فى توحيد القطرين بعد تفوقه على الخصوم وإلحاقه الهزيمة بالسمكة «الكهينة» التى تتظاهر أحيانا بالموت لكى تنجو من المخاطر. لكن فى ظل الفقر وصعوبة المعيشة حاولوا تحسين العلاقة ففرقوا بين كبير الحجم وصغيره الذى يتغذى بالأحرى على النباتات والطحالب، وسلخوا جلده الأملس وصنعوا منه طواجن وأطباق مختلفة بما أنه ضمن أرخص الأسماك، وسعره أقل حتى من البلطى.
*
الزلزال الذى شعرنا به الأسبوع الماضى، وكان مركزه بالقرب من جزيرة كريت، هو ما جعلنى أخوض فى سيرة القراميط وغيرها من الأسماك التى تنظر إليها الشعوب على أنها نذيرة شؤم وتتنبأ بقرب حدوث كوارث طبيعية مثل الزلازل أو التسونامى، فالمصريون ليسوا وحدهم الذين يتوارثون الأساطير ويخافون أو يتشاءمون من ظهور بعض الكائنات فى لحظة بعينها أو يحاولون الربط بين بعض الظواهر الطبيعية والتكهن بالمصائب. الفلكلور اليابانى مثلا يزخر هو الآخر بالحكايات التى تدين القراميط وكذلك أسماك المجداف التى تُعرف فى كثير من بلدان العالم بأنها «أسماك الزلازل» و«نهاية الكون». ومع أن هناك العديد من الدراسات العلمية التى رجحت أن الأسماك لا تمتلك حاسة سادسة ولا يمكنها التنبؤ بالزلازل، إلا أن سطوة الأسطورة والمعتقدات الشعبية تكون غالبا أقوى بكثير من كل الأرقام والتجارب المثبتة، فيستمر الناس فى تداولها لأن البشر بطبيعتهم يبحثون عن إشارات وعلامات تحذيرية تساعدهم فى التغلب على مصائرهم. نبحث عن رسالة ساقها لنا القدر أو حكاية رواها الأقدمون، وفى أحيانٍ كثيرة يكون اليأس هو ما ينتج الأساطير.
فى نوفمبر 1855 اهتزت الأرض غضبا فى مدينة «إيدو» اليابانية، وهو الاسم القديم لمدينة طوكيو خلال حكم عشيرة «توكوغاوا»، تسبب الزلزال المدمر وقتها فى اندلاع العديد من الحرائق ونشأة سلسلة من موجات التسونامى ووقوع الآلاف من الضحايا. وفى اليوم التالى من الكارثة التى ألمت بالبلاد، انتشرت فى كل مكان رسومات مطبوعة على الورق بحسب الطريقة التقليدية اليابانية تصور أسماك القط أو «القراميط» على أنها المسئولة عن حدوث الزلزال، وما زالت هذه النقوش تُعرف باسم «صور أسماك القط أو السلور». ووفقا للتفسير المتاح حينها انتهزت القراميط فرصة غياب آلهة الحماية من الهزات الأرضية، التى تتوارى خلال الشهر العاشر من السنة القمرية، لكى تهز أرجاء العاصمة السياسية، أى إن السمكة المؤذية تعمدت زعزعة الحكم، واندست تحت الصخور فجرى ما جرى. لذا تم تصويرها تارة والآلهة تحاول إخضاعها وتارة أخرى وهى تتعهد بعدم العبث بالأمن، وفى بعض المرات تظهر والناس يقاومونها، إلى ما غير ذلك من الأشكال المختلفة.
*
بعد ذلك بسنوات طويلة، خلال كارثة فوكوشيما عام 2011، حين تسبب زلزال فى انقطاع التيار الكهربائى عن محطة للطاقة النووية ودمرت موجات التسونامى مولدات الطوارئ وانفجرت ثلاثة أنوية مفاعلات، بزغ اسم سمكة أخرى لتزاحم القراميط فى سمعتها السيئة، وهى من نوع المجداف الذى سُمى كذلك لأنه يجدف فى الماء بزعانفه ويعد من أضخم الأسماك العظمية ويشبه جسمه الشريط الطويل، ما ربطه تاريخيا بحكايات الثعابين البحرية. قيل وقتها إن عددا منها جنح على الشاطئ قبلها بأيام، وهذا معناه حدوث كارثة وشيكة وفقا للفولكلور اليابانى الذى لقب سمكة المجداف باسم «رسول قصر إله البحر»، وجعل خزعبلات «سمكة يوم القيامة أو نهاية الكون» تنتشر حول العالم. سبب هذه التخمينات أن هذه الأسماك تعيش أساسا فى أعماق البحار، فحين يتم رصدها بالقرب من السطح يشير ذلك عادةً إلى أنها مريضة أو تحتضر أو على الأقل مشوشة. وقد حاول بعض العلماء أن يجدوا أسبابا علمية لهذا التشوش والانجراف نحو الشاطئ، وأرجعوه على الأغلب إلى تزايد الضغط على الصخور فى المياه بسبب قرب حدوث زلزال وإطلاق شحنات كهربائية فى المياه قد تؤثر على بعض الكائنات البحرية.
وقبل عدة أشهر تجدد الهلع من سمكة المجداف حين صورها شخص على أحد شواطئ المكسيك وانتشر الفيديو كالنار فى الهشيم على شبكات التواصل الاجتماعى، وبالفعل حدث زلزال بعدها بفترة، والتصقت بها كالعادة سمعة «سمكة الزلزال» حتى فى عدم وجود ما يؤكد ذلك. نفعل ما نفعله بالأرض، ثم نلقى اللوم على الأسماك، بدلا من أن نستمع إلى الطبيعة من حولنا أو نسعى لمعاقبة المتربحين من الحروب والجنرالات المتخصصين فى أصناف المجازر ضد السكان الأصليين، فهم من يفلتون من قبضة اليد «ولا أجدع قرموط».