ما كدت أفتح دفاترى استعدادا للكتابة حتى باغتتنى صور التحركات السياسية الجارية على قدم وساق فى مختلف العواصم العربية والعالمية لوضع حد للكوارث التى تعيشها المنطقة. كنت قد كتمت الصوت، فلاحقتنى الصور على الشاشة تتغير من قناة إلى أخرى، هذه مهرجانات خطابية للدفاع عن فلسطين، وتلك مشاهد من مسلسل «معاوية» الذى يتناول سيرة مؤسس الدولة الأموية فى دمشق. فضلت أن أركز فى صينية الكنافة بالقشطة على أمل تحسين مزاجى، ورحت أتأمل تشابك خيوطها الرفيعة، وقد «تقطعت أوصالها» واحمر وجهها. من الأفضل أن أنغمس فى الأكل والقرمشة، هكذا فكرت... لكن حتى الكنافة ذكرتنى بعهد معاوية بن أبى سفيان الذى قيل ضمن ما قيل إنهم صنعوا الكنافة من أجله حين كان واليا على الشام، وقد ظل فى منصبه هناك لمدة عقدين من الزمان، بين عامى 641 و661 ميلاديا، قبل أن يعلن قيام الدولة الأموية التى اتسعت ودام حكمها إلى 750 م. عُرف عن معاوية أنه يحب الأكل والبذخ، وعندما شكا من الجوع خلال نهارات رمضان نصحه طبيبه الدمشقى، ابن آثال، وكان مسيحيا من وجهاء الروم وكنيته «أبا الورد»، بتناول هذا الحلو الذى قام بتحضيره خصيصا له فى وجبة السحور لأنه غنى بالسعرات الحرارية.
الكنافة كانت هى الدواء الموصوف بحسب ما ورد فى بعض المؤلفات القديمة وعلى رأسها مخطوطة العلامة المصرى جلال الدين السيوطى (1445-1505) «منهل اللطائف فى الكنافة والقطائف» التى جاء فيها معلومات حول انتشار هذين الصنفين، وقد أخذ السيوطى بدوره عن من سبقوه. وأتى ذكر الكنافة أيضا فى كتب العصر العباسى مثل «الوصلة إلى الحبيب فى وصف الطيبات والطيب» لابن العديم الحلبى الذى يضم مجموعة من وصفات الطبخ تعود للقرن الثالث عشر. هكذا ظهرت تسمية «كنافة معاوية» التى كانت أيامه أكثر تشابكا وتعقيدا من خيوط الكنافة الطويلة المتداخلة، فسيرته مثيرة للجدل وحمالة أوجه... والناس فيما يعشقون مذاهب!
تعامل معاوية فى الشام على أنه حاكم بسلطات وصلاحيات كاملة، وكان شخصية محورية فى الأحداث التى مرت بالمسلمين منذ مقتل عثمان بن عفان وحتى توليه الخلافة وتأسيسه لنظام المُلك الوراثى بعد ذلك، أى الدولة الأموية التى حكمت العالم العربى الإسلامى تسعين سنة وحكمت الأندلس لثلاثة قرون، فقد استلم الكيان السياسى الذى نسميه الدولة الإسلامية وهو يدار بنظام وغيّره إلى نظام آخر وأسس لأسرة حاكمة انتسبت لقبيلته. وعلى هذا النحو يكون قد حسم الصراع التاريخى الدائر بين بنى هاشم وبنى أمية، وهو صراع قرشى - قرشى وصفه ابن خلدون فى مقدمته الشهيرة، ثم تلميذه المقريزى فى كتاب «النزاع والتخاصم بين بنى أمية وبنى هاشم».
هذان العالمان الجليلان كانا على وعى بطبيعة الصراعات القبلية التى استمرت بعد ظهور الإسلام واكتسبت فيما يلى طابعا دينيا وأدت بشكل أو بآخر إلى «الفتنة الكبرى» التى كتب عنها طه حسين وعباس العقاد. وبعد إنهاء وجود الفرس على يد الجيوش الإسلامية فى عهد عمر بن الخطاب، تولى معاوية مهمة استكمال الفتوحات الإسلامية والحروب فى اتجاه الشمال مع البيزنطيين، لذا قيل عنه إنه ظاهرة سياسية وشخصية خلافية كان من الممكن أن تُلهم عملا دراميا شديد الثراء لو تم تناولها بحرية وعمق يسمحان بفك خيوطها المتشعبة كالكنافة التى تتعدد الروايات حول أصلها.
• • •
البعض يرجعه إلى مصر التى نقل إليها الفاطميون دولتهم بعد أن استقلوا بها عن الدولة العباسية عام 969م، فاستقبل الناس المعز لدين الله الفاطمى بأطباق الكنافة ابتهاجا بحضوره، ويبرهن أصحاب هذه الرواية على كلامهم بالتأكيد على أنها كانت منتشرة أيام الفاطميين والأيوبيين والمماليك، ويذكرون أبيات الشاعر المصرى أبو الحسين الجزار، من عصر المماليك، الذى تغنى بالكنافة وصورها كمحبوبة غارت من ذهابه إلى القطايف: «تصد اعتقادا أن قلبى خانها، وقد قاطعتنى ما سمعت كلامها، لأن لسانى لم يخاطب لسانها». أما السيوطى فقد تحدث عن الشكوى التى رفعها المصريون إلى المحتسب فى شكل قصيدة لكى ينددوا بارتفاع الأسعار خلال شهر رمضان عام 917 هجريا، جاء فيها: «وقد صرت فى صف القطائف هائما، ترانى لأبواب الكنافة أقرعُ، فيا قاضيا بالله محتسبا عسى ترخص لنا الحلوى نطيب ونرتع».
بعد أن كان يطلق عليها «زينة موائد الملوك» صارت محببة إلى الأغنياء والفقراء على حد سواء. قصتها إن دلت على شىء فإنما تدل على تداخل تاريخ هذه المنطقة، فالأكلات والحدود والعائلات يصعب فصلها عن بعضها البعض. وبتتبع التواريخ تظل رواية «كنافة معاوية» هى الأقدم، واسمها مشتق من «الكنف» بالعربية أى الإحاطة والحماية، فى إشارة إلى طبقتى العجين اللتين تجمعان الحشو بينهما. ثم يأتى تفسير ويكيبديا لينسف كل ما سبق، مؤكدا أن أصل التسمية يعود إلى اللغة الشركسية «تشنافة»: «تشنا» وتعنى البلبل، و«فه» تعنى لون، أى لون البلبل، فى إشارة واضحة إلى انتقالها إلينا عبر الأتراك والشراكسة، فمع هذا النوع من العجين لا شىء مؤكد!
• • •
خيوط الحكايات متشابكة كشعيرات الكنافة التى تطورت صناعتها، فصار منها الخشن ومنها الناعم ومنها الوسط أو«المُحيرة» ومنها المبرومة والمفروكة والعثملية... فى فلسطين، تحديدا فى نابلس بالضفة الغربية، ظهرت لأول مرة الكنافة المحشوة بالجبن الأبيض الذى اشتهرت به المدينة. وصل إليها عام 1854 الحاج عمر محمد عبد الله أبو سير الشهرانى بعد أن تنقل بين بلاد الشام وإسطنبول، وفتح دكانا للحلويات وقرر استبدال حشوة الجوز والفستق بالجبن، ربما لعدم توافر المكسرات، وابتكر الكنافة النابلسية كما نعرفها اليوم. انتمى هذا الرجل إلى قبيلة شهران بالجزيرة العربية وتزوج من فتاة دمشقية من بيت العظم، وبعد رحيله عام 1911 ترك سر صنعته لأبناء نابلس.
فى الشمال استبدل السكان الجبنة النابلسية بالعكاوى المنتشرة أكثر لديهم، ومثلهم فعل اللبنانيون. أما أهل غزة فقد غيروا فى الوصفة وأضافوا القرفة وجوزة الطيب ليكسبوا هذه الحلوى نكهة غنية بالتوابل تشبههم. فتح أشهر محل كنافة هناك فى عام 1896.. رائحة الحلويات التى تصنعها عائلة «ساق الله» كانت تملأ شارع عمر المختار بوسط غزة إلى أن تهدم كل شىء واضطروا إلى نقل نشاطهم إلى القاهرة. أما من بقوا فظلوا يحاولون صنع الكنافة من الخبز الجاف وما توفر من المكونات تحت القصف، إذ ربما تجعلهم يحتملون الجوع.