المرأة التى رفضت الهزيمة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 18 مايو 2025 2:09 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

المرأة التى رفضت الهزيمة

نشر فى : السبت 17 مايو 2025 - 8:45 م | آخر تحديث : السبت 17 مايو 2025 - 8:45 م

هذه فكرة الانتقام الفردى مرة أخرى، ولكن بعد أن أخذت بعدًا عميقًا وذكيًّا، فخرجت من إطارها الضيق، لكى تصبح رفضًا للهزيمة، وتمردًا على النسيان، وإعلانًا عن المحاولة، حتى لو كانت محاولة عبثية وغير قانونية، وحتى لو اعترفت مرتكبة جرائم القتل، وإنما هو احتجاج وحشى على أفعال أكثر وحشية.
الرواية الصادرة عن دار العربى؛ بعنوان «حتى الموت» للكاتبة الأرجنتينية راكيل روبلس، وترجمتها تقى علاء الدين، وموضوعها مأساة عابرة للأجيال، باختفاء المعارضين السياسيين فى سنوات الديكتاتورية، أو باختطاف أبناء هؤلاء المعارضين، وإعادة تربيتهم وتأهيلهم ليكونوا فى خدمة النظام، وفى حفل توقيع الرواية، قالت المؤلفة راكيل إن والدها ووالدتها كانا أيضًا ممن اختفوا، ولم يُعثر لهم على أثر حتى اليوم، وقامت خالتها وزوجها بتربيتها.
اختارت راكيل أن تحكى فى روايتها قصة انتقامٍ مروعة تمارسها امرأة تدعى ناديا، تعقبت 36 رجلًا وامرأة، تسببوا فى تعذيب أو اغتصاب أو إخفاء أو اختطاف المعارضين وأسرهم وأطفالهم. قتلت ناديا ضحاياها بطرقٍ متنوعة بشعة، ولكن بدلا من التخفى والإنكار، فإنها اعترفت بجرائمها بالتفصيل، وعندما أكملت العدد الذى قررته للانتقام، أعلنت مسئوليتها عن ذلك، بل إنها تركت خطابات وفيديوهات لخطوات التعقب، وارتكاب كل حالة قتل لضحاياها، بعد أن تفننت فى اختيار أدوات ووسائل التصفية، مع تعذيبهم الإضافى بإبلاغ معظمهم قبل موتهم، بأنهم يقتلون قصاصًا مما فعلوه فى سنوات الديكتاتورية، من قتل واغتصاب واختطاف وتعذيب للمعارضين ولذويهم.
ناديا بهذا المعنى ليست مجرد قاتلة سادية، ولكنها تريد أن تبلغ رسالة قوية بأنها لا تقبل الهزيمة، ولا النسيان، وأنها تريد إبلاغ المجتمع أن الكثيرين قُتلوا بدم بارد ويراد إغلاق ملفاتهم، إنها بطلة تراجيدية تعرف خطأها، بل وتعترف بأن ما فعلته من تصفية هو شر أيضًا، ولكنها تريد فى المقابل الاعتراف بالشر الأكبر الذى أفرز هذه الجرائم.
لكن حكاية ناديا ستُروى من خلال حبكةٍ إضافية، وعبر بطلة أخرى هى أمها ريتا والتى قررت الاستعانة بكاتبٍ محترف يحتاج النقود، لكى يكتب كتابًا عن ابنتها، والرواية كلها تُروى من خلال سرد هذا الكاتب الذى سنكتشف أنه عاش فى المنفى بسبب الديكتاتورية، كما أن أخته تعرضت للاعتقال، وكذلك زوجته التى تركته.
هكذا تتقاطع حياة المؤلف الضائع مع حياة ريتا التى قامت برعاية بعض أطفال المعارضين السياسيين، وكانت تعمل مدرسة فى روضة للأطفال، والآن تحاول ريتا أن تسجّل قصة انتقام ابنتها فى كتابٍ كنوع من المواساة المستحقة، وكتذكرة بما حدث فى سجل المختفين والمعذبين، وكإعلان لرفض الاعتراف بالهزيمة، مهما كانت العواقب.
نجحت راكيل فى رسم ملامح أبطالها الثلاثة: الأم ريتا، والابنة ناديا، والكاتب، مثلما نجحت فى رسم معالم المأساة حاضرا وماضيا، وبينما يبدأ الكاتب عمله على مضض، من أجل النقود، فإنه سرعان ما يهتم وتتغير لامبالاته بلقاءاته مع ناديا فى السجن، أو مع أمها ريتا فى مطبخ بيتها، بل وتنشأ علاقة حب بينه وبين الأم، وتصبح الرواية بأكملها رحلة لاستعادة الذاكرة على عدة مستويات: ذاكرة الكاتب، وذاكرة ريتا، وذاكرة ناديا، وذاكرة الأرجنتين تحت حكم القهر والديكتاتورية.
يمكن قراءة الرواية كلها أيضًا بأنها محاولة لهزيمة «الهزيمة» على المستوى الفردى والجماعى، وبينما يحكى الكاتب عن ريتا وناديا، وعن زوجته الهاربة، فإننا نسمع أصوات كل هؤلاء أيضًا من خلال حوار الكاتب معهم، كما تقطع النص تقارير الحالة التشريحية لكل من انتقمت منهم ناديا، حيث طاردتهم فى كل مكان، وتركت فيديوهات صورتها بكاميرا صغيرة فوق نظارتها، واستغلت فى التصفية مهارتها فى التمثيل، وفى فنون القتال، وفى فن التصويب بالأسلحة النارية.
معنى الحكاية يجعل الفرد فى مواجهة النسيان، وإصرار ناديا على إخفاء هوية اثنين من قتلاها، يعكس رغبتها فى الانتقام بنفس الأسلوب الذى عانى منه المعارضون، فقد أُخفيت هويات من قتلوا أو عذبوا أو من تم إلقاؤهم من الطائرات فى عرض البحر.
أرادت ريتا وناديا إعادة الملفات القديمة إلى الواجهة، ورفضت ناديا تمامًا فكرة تهريبها من السجن، رغم أن حياتها مهددة بالخطر والتصفية، وسجلت الانتقام المضاد، مع التأكيد على أنه ليس تحقيقًا للعدالة، فلا شىء يعادل قتل وتعذيب الغائبين، أو خطف أطفالهم، ولكنها إشارة ذات دلالة إلى أن ما حدث لن يُنسى ولن يموت، وأن الحالمين بالعدالة لا يمكن هزيمتهم.
لعلها رواية دفاع عن الذاكرة باعتبارها الهوية والوجود، وعندما ندخل إلى ذاكرة الكاتب، أو ذاكرة ريتا، أو ذاكرة ناديا، فكأننا تأكدنا من وجودهم، دون تبسيط أو اعتقاد بأن المهمة سهلة، ولكن شخصيات الرواية لا تبالى فى دفع ثمن الألم فى استعادة الذاكرة، وفى الدفاع عن ذلك، مهما كانت النتائج، ومهما أعادت الذاكرة إلى الوعى لحظاتٍ مؤلمة للغاية، ولكن الأمر أشبه بالكى للجروح، وعندما يبكى الكاتب أو ريتا أو ناديا، فإنهم يغتسلون من كوارث الماضى التعيس، ويحاولون الخلاص، ويبحثون عن الميلاد الجديد.
نجحت راكيل كذلك فى صياغة حبكات جيدة لكثيرٍ من وقائع القتل والانتقام، سواء بالتنكر، أو بمحاولة استدراج الضحية، أو بدراسة ناديا العميقة لتأثير الأدوية والسموم، أو لتسجيلها التفصيلى للحظات مواجهة ضحاياها بذنوبهم، وتحقق التوازن فى الرواية بلحظات الحب بين الكاتب والأم ريتا، أو بلحظاتٍ إنسانية كثيرة مؤثرة، مثل علاقة ناديا بالأولاد الذين ساهمت هى وأمها فى إنقاذهم وتربيتهم، حتى أصبحوا كبارًا.
بدا لى بوضوح أننا أمام حكاية ناضجة، تتجاوز الخاص والمحدود إلى تأمل أهمية البحث عن العدالة، ومقاومة الهزيمة والإفلات من العقاب.
وإذا كان الكتاب قد اكتمل عن اعترافات ناديا، فإن كتاب المواجهة والمحاسبة عن الماضى كله لم يكتب، ولم يراجع، ولم يفتح كاملًا بعد.. ورحلة ريتا، والكاتب، وناديا هى، أولًا وأخيرًا، حكاية الأمل وليس اليأس.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات