هل ستأخذ الأمر على محمل الدعابة؟ لعلك على حق، فبدلاً من أن يعكف الخاطر على تأمل الجديد فى حادثات الليالى، شطح يلعب باسم السميراء التى شغلت الدنيا أيام جورج بوش الابن، صاحبة درّة البيان الجيوسياسى: «الفوضى الخلاقة»، التى كانت تبشّر بميلاد الشرق الأوسط الجديد، وقد طال به المخاض عشرين سنةً، والغيب أعلم بما قد يطول.
لا ينصرفنّ الذهن إلى أن الموضوع تطويح فى متاهات الجغرافيا السياسية والاستراتيجية، فطبع النوادر والطرائف غلّاب على القلم، استهواه اسم الوزيرة الموسيقية، التى آثرت الانتقال من العزف على البيانو، إلى العزف على القانون الدولى. كونداليزا نحتٌ وتأليف ظريفان: كوندا، من جوكوندا، وليزا، من موناليزا. الفوضى الخلاقة نظرية إبداعية، إذا تفكّرنا فيها ضمن فلسفة الفن. العلوم السياسية تفسّرها بأنها: «أن تهدم كل شىء وتسوى الهياكل بالأرض، ثم تشكّلها على هواك، أو أن تتركها تتشكل كما اتفق لها».
البلدان تتفاوت طوالعها، بعضها سعد وبعضها الآخر نحس. بعد الحرب العالمية الثانية، ابتسم الحظ لعدد من دول أوروبا الغربية بمشروع مارشال لإعادة الإعمار. الحظ ليس مهرّج سرك حتى يظل يضحك على الدوام. العراق، منذ اثنين وعشرين عامًا فى انتظار غودو إعادة الإعمار، ومثله ليبيا وسوريا والسودان وآخرون، لعل طيف مارشال يمرّ، ففى نهاية المطاف، الأوهام هى الأخرى فيها نفحة من الأحلام.
ليس عسيرًا على خبراء البحوث الاقتصادية، إعداد دراسة ضافية عن الوضع الاقتصادى العراقى، فى زمن الشاعر بدر شاكر السياب، الذى أطلق صرخة: «وفى العراق جوع». لم يكن ذلك فى عهد حمورابى، فى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، ولا فى عصر نبوخذ نصر، فى القرن السادس قبل الميلاد، ولا فى بغداد قلعة الرشيد، لكن الجوع ظهر فى عهد أوهام إعادة الإعمار. كيف يتسنّى للعقل أن يستوعب بلدانًا سابحةً على بحار نفطية كليبيا والعراق، محرومة من انتظام الكهرباء والماء النقى ووفرة الغذاء، أو سلّة الغذاء العربى خالية من الغذاء، وحتى من الخبز الحافى.
هل يتحمل المثقفون جانبًا من المسئولية عمّا آلت إليه أوضاع العالم العربي، جرّاء النأى عن القضايا المصيرية؟ أليس فى ذلك تجرّد من أعباء أمانة الهوية والانتماء إلى الأوطان والأمّة، أم لم يكونوا يتصورون وصول الأمور إلى هذه المواصل؟
لزوم ما يلزم: النتيجة التأمّلية: أليست الفوضى الخلاقة فكرةً ثقافيةً، وفكرًا ثقافيًا استراتيجيًا؟
عبداللطيف الزبيدي
صحيفة الخليج الإماراتية