فى مستعمرة سديروت، يحمل المستعمرون الإسرائيليون كراسى البلاج ويخرجون إلى أعلى التلة، يتناولون المشروبات، والطعام، ويتفرجون على وهج الانفجارات والحرائق المشتعلة، هناك، على مرمى البصر، فى غزة، حيث يقصف جيشهم بيوت الفلسطينيين ومدارسهم ومشافيهم. وفى غزة، بعض من يحترق فى البيوت تعود أصوله إلى هنا، إلى سديروت، أو إلى بلدة «نجد» كما كانت قبل أن تداهمها وحدة «جيفعاطى» المقاتلة فى ١٩٤٨ وترَوِع أهلها فيهربون البضعة كيلومترات إلى الجنوب ظانين أن الغربة لن تطول.
لن أحكى لكم عن الأمهات والأطفال والمسنين والمعاقين والشباب، ولا عن أب يرجو طفله أن يستفيق، طفله الذى طيرت القذيفة الإسرائيلية نصف رأسه ــ هذه الحكايات موجودة لمن يريد أن يطلع عليها، وبالصور كمان. لن أطلب تعاطفكم ولن أتوجه إلى إنسانيتكم، فالوقت متأخر، ومن تستثير فلسطين الإنسانية فيه مشغول الآن، يعمل على تجميع الدواء والمستلزمات الطبية ومحاولة ترتيب القوافل والوقفات والبيانات والتواصل مع أهلنا هناك. ومن لم تستثر الأخبار إنسانيته، ومن يتشفى، ومن يتحدث عن «مصلحة» مصر أقول له إن مصلحة مصر لم ولن تكون أبدا مع إسرائيل.
لا أقول هذا من باب الإنشاء أو الخطابة أو المزايدة ولكن من واقع التاريخ والمنطق.
تعاقدنا على السلام مع إسرائيل، فبماذا أتانا هذا السلام؟ عادت لنا سيناء. نعم، ولكن بشروط نرى اليوم أثرها طويل المدى. جاءتنا المعونة الأمريكية. وهل أحوالنا الاقتصادية أفضل مما كانت عليه قبل أن تأتينا؟ كنا نتمتع على الأقل بالأمن الغذائى، فأين هو الآن؟ ماذا حدث لقطاعنا الزراعى جراء «التعاون» مع إسرائيل؟ ماذا حدث لثروتنا المعدنية؟ للغاز الذى تعاقدنا على «بيعه» بالخسارة واليوم نستورده ــ من إسرائيل أيضا ــ بالسعر العالمى؟ فقدنا مصداقيتنا وموقعنا ووظيفتنا بين العرب وفى دول الجنوب وكسبنا «صداقة» أمريكا. فقدنا صداقاتنا الأفريقية الراسخة وتركنا إسرائيل ــ صديقتنا الجديدة ــ تمرح فى جنوب السودان فينشق وفى إثيوبيا فتبنى سد النهضة. رحمنا الله من خوض حرب خامسة. فعلا، ولكن هل نحن محكوم علينا دائما بالاختيارات الثنائية؟ ألم يكن من الممكن أن ندير أمورنا بحصافة السياسة لا بالحرب؟ وهل لم تسبب إسرائيل موت مصرى واحد منذ المعاهدة؟
لنتذكر دائما أن الحركة الصهيونية، منذ نهايات القرن التاسع عشر، روجت لفكرة دولة إسرائيل عند بريطانيا وأوروبا والولايات المتحدة مستعملة أداة تسويق واحدة: أن إسرائيل ستمنع عنهم همجية وتخلف العرب والمسلمين. وهى التيمة التى لا يمل نتنياهو من تكرارها كما فعل فى مؤتمره الصحفى الثلاثاء فقال إن إسرائيل تجد نفسها فى منطقة «يزحف عليها التطرف الإسلامى فيسقط البلاد.. وهو يدق على أبوابنا فى الشمال وفى الجنوب»، وبناء على هذا فقد قال صراحة، ولأول مرة، أنه «لا يمكن أن يكون هناك وضع، تحت أى اتفاق، نتنازل فيه عن التحكم الأمنى فى أراضى غرب نهر الأردن». أى أنه أعلن رسميا وفاة «حل الدولتين».(جريدة التايمز الإسرائيلية).
لنتذكر أيضا أن إسرائيل كيان بُنِى على الفكر العنصرى، فهو مُكَوِن أساسى فيه، وأنه كيان إن كان يجهر باليهودية وقصة شعب الله المختار لتسويق نفسه إلا أنه ثبت أنه يفضل الروسيين من غير اليهود على العرب اليهود، وأن مؤسساته الصحية، مثلا، تنأى بنفسها عن استعمال الدماء التى يتبرع بها اليهود الأفارقة، فتسمح لهم بالتبرع ثم تتلف دماءهم فى الخفاء. لنتذكر أن فى خطابهم التقليدى مصر هى مكان القيد ومكان العبودية، ومصر هى التى يجب دائما تحييدها وتحجيمها، ومصر هى التى يدعون عليها فى الصلوات وفى الأعياد.
صديقك يَصْدُقك ويتمنى لك الخير، فكيف لعاقل أن يتصور ــ فى ظل كل ما سبق ــ أن إسرائيل يمكن أن تكون صديقا لنا؟ وهذه الصداقة الموهومة، ماذا تكلفنا؟ أن نكون جلادى أهلنا فى غزة، وأن يسخر منا العالم كما فعل فى الأسبوع الماضى حين أتت مبادرة الهدنة المصرية، على مهل واستحياء، فلم تزد عن أن تكون صدى للخطاب الغربى الذى يحث الجانبين على ضبط النفس. وأدت المبادرة الغرض المطلوب، فقد رفضتها حماس ــ التى لم تُستشر فى أمرها أصلا ــ فظهرت بمظهر المتطرف المحب للعنف، وقبلتها إسرائيل فظهرت بمظهر العاقل الذى يريد السلام. بل وصرح المحلل العسكرى الإسرائيلى، ألون بن دافيد (حسب شبكة القدس الإخبارية)، ان «إسرائيل ترفض تدخل وساطات من أجل وقف إطلاق النار عدا الوساطة المصرية». فيا للفخر. وواقع الأمر أن شروط حماس لقبول الهدنة واضحة، كما جاءت فى جريدةالجارديان فى ٩ يوليو، أن حماس تطالب بإعادة تفعيل شروط هدنة ٢٠١٢، وإعادة إطلاق سراح الأسرى الذين أطلقتهم إسرائيل مبادلة بجلعاد شاليط ثم أعادت حبسهم بعد مقتل المستوطنين الإسرائيليين الشباب الثلاثة، وأن تكف إسرائيل عن الاعتداء على غزة واستهداف الأفراد، وأن يتم فتح المعابر بشكل طبيعى، وأضافت لها أن تكف إسرائيل عن محاولات تخريب الحكومة الفلسطينية الجديدة وأن يطرح الموضوع الأساسى: موضوع رفع الحصار عن غزة. المبادرة المصرية لا تلمس من كل هذا إلا وقف الاعتداء وفتح المعابر «فى ضوء استقرار الأوضاع الأمنية على الأرض» ــ كلمات تدعو التأويل، وهى، كما غرد «بلال» من غزة، بمثابة: «يكفى هذا الآن، نعلن هدنة ونعود لقتلكم ببطء كما نفعل منذ ثمانى سنوات. تحياتنا. إسرائيل».
الظلم هو بداية العدوان، وكل ما يأتى من المظلوم هو مقاومة ودفاع عن النفس. وغزة مظلومة أشد الظلم.
شريط ساحلى، طوله أربعون كيلومترا، ولا يزيد عرضه عن كيلومترات خمسة عشر. يسكنه ما يقرب من اثنين مليون نفس. تحاصرهم إسرائيل برا من الشمال والشرق وبحرا من الغرب. وتحاصرهم مصر من الجنوب. مليونان من الناس، يشاركوننا التاريخ واللغة والثقافة والروابط الأسرية والمصالح، نضرب حولهم سياجا من حديد ونار وكهرباء ونُيَسِر لإسرائيل استعمالهم كحقل تجارب.
إسرائيل، نيابة عن قوى الاستعمار الجديد، وقوى تجارة السلاح والغذاء والماء والبشر، تجرب فى غزة، تطور تقنياتها، وتضبط إيقاعها، وتنمق خطابها. تستشف حدود الممكن، فتقف عنده وهلة، ثم تبتكر آلية لدفعه، شبرا شبرا ومترا مترا فى الاتجاه الذى تريد. الذى يؤَمِن إسرائيل ويجعلها قادرة على حبس بشر فى قطعة من الأرض والتسلى بقتلهم من حين إلى آخر دون تدخل يُذكر من حكومات العالم هو ارتباط هذه الحكومات مع إسرائيل فى تجارة وأبحاث السلاح و«الأمن» والتجسس. حجم الصادرات العسكرية التى تمد بها إسرائيل السوق العالمية يصل إلى بلايين الدولارات كل عام. وفى السنوات القليلة الماضية اشترت إسرائيل من الدول الأوروبية سلاحا ببلايين اليوروز، كما قدم الاتحاد الأوروبى إلى الشركات والجامعات الإسرائيلية منحا دراسية تقدر قيمتها بمئات الملايين من اليوروز فى مجالات خاصة بالنشاط العسكرى. وإسرائيل من أهم الدول المنتجة والمصدرة لطائرات الـ«درون» (التى تطير وتقوم بالمهمات بلا قائد). وكل ما تتقدم به إسرائيل من تقنيات الحرب والقمع (أو كما تسميها تقنيات «الدفاع» و«التحكم فى التكتلات البشرية») إلى السوق العالمية يتم تسويقه على أنه «مجرب فى الميدان».
أى ميدان؟ فلسطين بالطبع، وبالذات غزة.
سور لا يستطيع الفلسطينى عبوره إلا بموافقة إسرائيل ــ أو مصر، وتستطيع إسرائيل اختراقه فى أى وقت تشاء وبأى شكل تشاء. تضرب أهل غزة من الجو ومن البحر فتتفادى أى خسائر فى جنودها. تتفادى حتى إمكانية إحساس الجنود فى يوم ما بالذنب، فما يقومون به أقرب إلى لعبة كمبيوتر، والكثير تقوم به عنهم طائرات الدرون ــ ولا عجب أن إسرائيل تضع مجهودا بحثيا كبيرا فى تطوير الروبوتس. سور يمنع رجل الشارع الإسرائيلى العادى من تكوين أى فكرة عما يدور داخل المنطقة المحاصرة فيتركه مستَقبِل جيد للإعلام الحكومى يحكى له عن التطرف والتخلف والكراهية والعداء.
أسوار من خرسانة ومن أسلاك مكهربة، كاميرات مراقبة وأجهزة تصنت، أسلاك شائكة، طائرات بلا قائد وروبوتس مقاتلة، قذائف وصواريخ وأصناف مختلفة من الرصاص ومن الاستهداف، قبة حديدية، أساليب استجواب وأساليب تعذيب وأساليب قهر، دراسات فى التغذية وعدد السعرات التى تبقى الإنسان حيا لكنها تحد من لياقته، تسخير الهندسة والجيولوجيا والطب وعلم الاجتماع وعلم النفس والقانون والبلاغة لتكريس مجتمع طائفى عنصرى وفرض سيطرته على المنطقة. وتسويق كل هذا للأقوياء فى العالم على أنه المنظومة الأمثل للتعامل مع كل ما يرون أنه آتٍ ليهدد مصالحهم: شعوب تحاول السيطرة على مقدراتها، بشر يحاولون الهجرة بحثا عن لقمة العيش، شباب يحاول اكتشاف واقتراح أساليب أفضل للتعامل مع الكوكب. وكله «جرب فى الميدان». الميدان، المعمل، حقل التجارب، الذى تمسك مصر بمفاتيح بوابته الجنوبية وتختار فى كل لحظة أن تيسر لإسرائيل الاستمرار فى التجريب.
مقاومة الشعب الفلسطينى هى الوقوف فى وجه كل هذا، وهذه الوقفة هى نيابة عن شعوب العالم، عنا كلنا. وأقول للحكومة المصرية ليس لكم فى الحقيقة خيار أن تنضموا إلى أقوياء العالم على حساب شعبكم، فهؤلاء الأقوياء عنصريون إلى الصميم، ولنا درس فيما حدث لرَجُلهم، صدام حسين. أقصى المكاسب المتاحة هنا هى مكاسب مادية فردية ــ مثل المكاسب التى حققها البعض فى صفقات الغاز وعمليات الزراعة ــ ولن يكون هناك مكسب لمصر. «جرب فى الميدان». الميدان، المعمل، حقل التجارب، غزة، التى تمسك مصر بمفاتيح بوابتها الجنوبية وتختار فى كل لحظة أن تيسر لإسرائيل الاستمرار فى التجريب. لا أحد يطلب من مصر أن تدخل فى حرب مع إسرائيل. الفلسطينيون لا يطلبون هذا ولا يطلبه أى عاقل ولا أى باق على مصلحة مصر. لكن مصر، حتى فى وضعها الراهن، لها ثقل سياسى وجغرافى مهم، ومصر بيدها أن ترفع الكرب عن أهل غزة، بيدها أن ترفض الدور الذى ترسمه لها السياسة الإسرائيلية والذى لا يكاد العالم أن يصدق أنها ترتضيه لنفسها، بيدها أن ترفض أن تكون شريكة فى قتل وتجويع الفلسطينيين وتدمير آمالهم فى الحياة، بيدها، بل وعليها أن تتصرف كدولة ذات سيادة، دولة عتيدة تعى تاريخها، وتعرف مصلحتها، وتعرف من صديقها ومن عدوها، تبسط حمايتها على غزة، وتفتح معبر رفح ــ رفح التى كانت مدينة واحدة فقسموها إلى «رفح المصرية» و«رفح الفلسطينية» ــ تفتحه بشكل دائم، وتقننه وتضبطه.
هل من المعقول أن تكون تجربتنا البائسة مع حكم الإخوان المسلمين سببا يقنعنا بالارتماء فى أحضان العدو الدائم والمعروف؟ هل يمكن أن نصدق أن مصر ــ مصر ــ تخاف حماس؟ كم عدد حماس؟ وما الذى تملكه حماس لمصر؟ الإرهاب فى سيناء؟ الإرهاب فى سيناء وليد الظروف التى خلقتها معاهدة كامب ديفيد وطورتها ممارسات أجهزة الأمن المصرية وألاعيب إسرائيل. يتحدثون إلى مالانهاية عن «هيبة الدولة»، وهل هيبة الدولة أن نترك سيناء مرتعا للإرهاب والجريمة ثم نمارس فيها حربا كل القتلى فيها من عسكريين ومدنيين مواطنون مصريون؟ وأن نعمل على مصلحة عدونا ــ المشهود له لعقود بعدائه لنا ــ على حدودنا ــ فنساعده على تطوير اقتصاده وآلته الحربية بالتجربة فى أهلنا؟ أى مصلحة لمصر فى هذا؟ لتضع الدولة المصرية يدها على سيناء كجزء من البلاد، له نصيبه فيما تعدنا به هذه الحكومة من مشروعات وتطوير، ولترفض ــ ولو بلباقة ــ اللعبة الإسرائيلية، وتفتح معبر رفح شراكة وتعاونا مع الفلسطينيين، فتظل غزة فلسطينية، ملتصقة بمصر كعهدها دائما ونؤَمِن نحن حدودنا بمعرفتنا. خطوة كهذه ستكسب مصر هيبة فى لحظة، ستكسبها حب الصديق، واحترام العدو.
أكتب هذه السطور وقد قتل الجيش الإسرائيلى مائتين وخمسة فلسطينيين فى غزة فى هذا الفاصل من التجربة، وأصاب ألفا وخمسمائة وثلاثين. ٢٥ من الشهداء من طلبة الثانوية العامة. من البديهى أن إسرائيل مصلحتها أن تجرف المستقبل الفلسطينى. أين مصلحة مصر؟