الدولة والإسلاميون: ملاحظات تأسيسية - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:42 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدولة والإسلاميون: ملاحظات تأسيسية

نشر فى : الأحد 18 يناير 2015 - 7:50 ص | آخر تحديث : الأحد 18 يناير 2015 - 7:50 ص

مازالت المعادلة السياسية فى مصر صفرية تدور حول نفس معطيات دولة ما بعد الاستعمار، القوميون فى مواجهة الإسلاميين، أو لنكن أكثر دقة الدولاتيون فى مواجهة الإسلاميين، فاعلين سياسيين يدعون الدفاع عن هوية مصر الفريدة حيث تجتمع عددة هويات فرعية إسلامية وقبطية وإفريقية وعربية بل متوسطية حول هوية مركزية فرعونية فى مواجهة فاعلين سياسيين آخرين يدعون الدفاع عن هوية مصر الإسلامية باعتبارها الهوية المركزية المتآمر عليها من قبل آخرين. قطعا هذه هى واجهة الصراع، هذا أيضا عنوان استدعاء وشحذ همم الأتباع الذين يهبون للدفاع عن هوياتهم المهددة، فتجد هؤلاء الذين يهبون للدفاع عن مصر التى كادت أن تذهب بلاعودة فى مواجهة هؤلاء الذين يهبون للدفاع عن إسلامية مصر المفترى عليها من قبل العلمانيين المتآمرين على الدين والكارهين له!

إن كان من دروس وخبرات مستفادة من صراع السنوات الأربع الفائتة فهو أن هذا الصراع مجرد غطاء للتمويه على صراعات خفية حول الثروات والموارد وحول من يقود كهنوت السلطة، ولأنه لا يفوز عادة بهذا النوع من الصراعات المادية سوى الأطراف الأكثر تنظيما فقد ظلت السنوات القليلة الماضية سجالا بين الفاعلين المعبرين عن الدولة وأولئك المعبرين عن تيارات الإسلام السياسى ولا سيما تيار الإخوان المسلمين، ولأنه لا داعى لإعادة سرد الأحداث الدموية التى جرت بين رحا الصراع بين الطرفين، فإن مراجعة سريعة لهذه الأحداث توضح أن الضحايا فى معظمهم كانوا من هؤلاء الأتباع الذين لا ناقة لهم ولا جمل سوى أن صدقوا حكايات الكهنوت الكاذبة هنا وهناك حول هذه الهويات المهددة على النحو السالف ذكره.

<<<

هنا معضلة، فالأتباع ــ الضحايا ــ صادقون فى مشاعرهم واستعدادهم للتضحية بأنفسهم فى سبيل الدفاع عما يعتقدون أنه حق، وكهنة المعابد من كل الأطراف سعيدة سواء كانوا فى خانة المنقذين أو فى خانة الضحايا، ففى كلتا الحالتين هم فى مقاعد القيادة وفى كتب التاريخ، كل بحسب رواية فصيله للأحداث وتفاصيلها التى تشكل وجدان أجيال وراء أجيال وتظل البلاد تدور فى دوائر مفرغة من الصراع اللامنتهى حيث لا نهضة ولا تقدم ولا تنمية ولا حتى هيبة، فهل من سبيل للخروج من هذا النفق؟ أطرح فى السطور القليلة المقبلة ما أتصوره ملاحظات لتأسيس جديد فى الصراع الدائر:

أولا: لا سبيل للتقدم فى مصر إلا بعد أن يعترف اللاعبون السياسيون بأن مصر متعددة، تلك الرواية غير الصحيحة عن أن المصريين على قلب رجل واحد يجب أن تختفى ويجب أن نعترف بهذه التعددية. مصر بها مسلمون ومسيحيون ويهود وداخل كل فئة من هذه الفئات هناك مذاهب وسنن مختلفة، مصر بها أيضا غير مؤمنين أو ملحدون أو لادينيون، هؤلاء جميعا يشكلون هوية جمعية مصرية، يجب أن يحصلوا جميعا على حقوق المواطنة، وتلك الأخيرة تعنى أن غير المسلم يجب أن يُعترف له بكل الحقوق مقابل التزامه بكل الواجبات الدستورية والقانونية، من لا يعترف بحقوق غير المسلمين المدنية والسياسية، يجب أن يتعرض للحرمان من ممارسة السياسة بلا تنكيل أو دم، ولكن بقواعد قانونية ودستورية صريحة فى عباراتها وعبر عملية تعليم وتعلم طويلة الأجل لتغيير الثقافات والمواريث الكهنوتية التى تقصر حق المواطنة على المسلمين الذكور الأصحاء جسديا.

ثانيا: فى مقابل ذلك، يجب أن يعترف كل الفاعلين المعبرين عن الدولة من ناحية أو أولئك من غير المنتمين إلى تيارات الإسلام السياسى من ناحية ثانية بأن مصر لا يمكنها أن تتقدم أو تعرف للاستقرار سبيلا فضلا عن الديموقراطية سوى بالاعتراف بحق هؤلاء المنتمين إلى تيارات الإسلام السياسى فى الوجود أولا وفى المواطنة ثانيا، فسياسات الإقصاء والتصفية والقبض العشوائى لن تؤتى أى ثمار سوى مزيد من الإرهاب والعنف والتطرف الفكرى والحركى، فالفكر لا يواجه إلا بالفكر، والانتخابات والصناديق لا تواجه إلا بالانتخابات والصناديق، فالتطرف فى معاداة الإسلاميين هو جرم فى حق الوطن لا يقل عن جرم تطرف بعض الإسلامين فى مواجهة غيرهم.

ثالثا: هذا الاعتراف المتبادل هو مجرد خطوة مبدئية نحو إقرار التعددية والمواطنة ولكنها قطعا خطوة ليست كافية، ذلك أنه لا يوجد فى تاريخ البشرية سوى وسيلة واحدة للمحاسبة ألا وهى وسائل وأدوات العدالة الانتقالية التى تجبر آلام الماضى وتحقق بحيادية ونزاهة فى كل حوادثه، نحو جبرها والاعتذار عنها مهما كانت هوية أو شخصية المدانين.

رابعا: هنا يجب أن يقر فى وعى جميع اللاعبين أن الدولة القومية الحديثة هى إطار كل هذه التفاعلات والاعترافات والتحقيقات، هذه حقيقة تاريخية لا ينبغى عبادتها ولكن لا يمكن أيضا تجاهل حقيقة وجودها، فدول الاتحاد الأوروبى لم تتجاوز ترتيبات الدولة القومية إلا بعد مرور ما يقرب من ٣٥٠ عاما من التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية التى أفرزت معطيات مكنتها فى النهاية من التوفيق بين الأطر القومية وتلك العابرة للقوميات على أسس مؤسسية واضحة ومحددة كان ولايزال فيها المواطن الأوروبى هو محور التفاعل، وهذا درس يجب أن يتعلمه الإسلاميون ويتعاملوا معه بواقعية فبعيدا عن تلك الروايات التاريخية التى تداعب عواطفهم وأحلامهم عن دولة الخلافة وقصصها الوردية، عليهم إعادة قراءة التاريخ من مصادر مختلفة عن تلك التى اعتادوا قراءتها بعد أن قدمت لهم رؤية تاريخية ذات منظور واحد فحسب.

خامسا: يجب على الإسلاميين كذلك بذل مجهود ذهنى وبحثى وحركى لفض الالتباس على ثلاثة محاور، فعليهم أولا فض الالتباس بين الشريعة الإسلامية كقيمة إلهية مقدسة عليا يؤمن بها طواعية من يدين بالإسلام وبين مجموعة الدساتير والقوانين البشرية التى اخترعها البشر للتعامل مع معطيات حياتهم المتغيرة دوما عبر التاريخ، فعدم ضبط العلاقة بين الثابت المقدس والمتغير البشرى دوما ما يوقع الإسلاميين فى معضلات نظرية وعملية تقيد حركتهم وتمنعهم من التواصل والتفاعل الطبيعى مع غيرهم من التيارات السياسية والفكرية الأخرى، عليهم ثانيا الفصل بين المظلوميات ونقد الواقع، لأن عيش تيارات الإسلام السياسى على مظلوميات الماضى سيبقى بكائيات تحيى شبح التنظيم وتضيف عليه القدسية فى مخيلات الأتباع وأتباع الأتباع، لكنه لن يحقق لهم أبدا وجودا سياسيا معترفا به دون قدرتهم على تقديم رؤية واقعية لذلك الأداء السياسى والمؤسسى البائس الذين قدموه فى الفترة من ٢٠١١ وحتى ٢٠١٣، كذلك عليهم أخيرا الفصل بين التنظيمات السياسية وتلك الدعوية، فذلك التنظيم الهلامى الذى يدعو الناس للصلاة والزكاة وحملات النظافة وصناديق الانتخابات حتى يصل إلى الحكم فيعيد توزيع الموارد والقيم فى المجتمع هو تنظيم محكوم عليه بالفشل!

<<<

لن تأتى حملات تشويه وشيطنة الإسلاميين إلا بنتائج عكسية، ولن تفيد حملات استنهاض همم «المسلمين» التى يقوم بها الإسلاميون لمواجهة هجمات العلمانيين، ولن تجدى شعارت عودة مرسى أو عودة الشرعية سوى فى المزيد من تعقيد المشهد السياسى المصرى، فهذا التأسيس الجديد لن يتأتى سوى بضغوطات يمارسها كل تيار على قادته وتنظيمه من أجل الخروج من تلك المعادلة التاريخية المملة.

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر