تناولت فى مقال الثلاثاء الماضى فى أسبوع ذكرى مولد زعيم الأمة مصطفى النحاس باشا، جانبا من نشأته ونبوغه المبكر، ومواقف تشف عن صلابة وإباء والتزام الطفل والشاب الصغير، وهى تشف من جانب آخر عن مجتمع التأم بنسق من القيم النبيلة، لا نجده اليوم إلا وقد وسم صاحبه بالإملال والسخف والتزيد! ومازلنا فى هذا الأسبوع نبحر فى بعض صفحات تلك الترجمة لصاحبها الكاتب والناقد الكبير عباس حافظ الذى عاصر النحاس باشا وكان شاهدا على كثير من مواقفه وبطولاته.
فبعد أن برع النحاس باشا فى شبابه كمحام مفوه لا يدافع إلا عن الحق، ولا يشق له غبار، كان ذلك بمثابة بطاقة عبور مبكرة لسلك القضاء. يقول عباس حافظ فى ترجمته للنحاس باشا: «وقد كان من بين المبادئ التى سنَّها فى أحد أحكامه ما يدل على تأصل الروح الدستورية فى نفسه من الشباب، ومبلغ احترام الفكرة النيابية عنده من البكور، قبل أن يوضع الدستور وتبتدئ الحياة النيابية فى البلاد بعدة السنين؛ فقد كان أول قاض يصدر حكما يقضى باعتبار مجالس المديريات هيئات ذات شخصية معنوية. وكان هذا الحكم خطيرا فى بابه، وجديدا لا سابقة له، فضلا عن أنه ينم على اتجاه نفسه، وتيار روحه، ومنصرف ذهنه، ويضع حجرا أساسيا فى بناء القواعد الدستورية التى كان القدر لا يزال يهيئ لها العوامل والأسباب. وكان مصطفى النحاس القاضى فى كثير من أحكامه واضع مبادئ، ومنشئ سابقات خطيرة، ومحدث حيثيات تصلح مراشَد ومراجع فى دور القضاء» ثم تابع: «وقد أصدر يوما وهو فى دائرة ابتدائية حكما فى بعض القضايا عدلته محكمة الاستئناف، ولكنها أمام روعة ذلك الحكم وقوة تخريجه وعمقه لم يسع رئيسها (وهو يومئذ يحيى إبراهيم باشا) إلا أن يبعث إليه بكتاب شكر وتقدير وإعجاب!»...هكذا كانت صنوف ومعادن الرجال، كانوا وقافين أمام الحق، مبجلين للحق ولكل من انتصر له ولو كانت بهم خصاصة.
ويتابع عباس حافظ: «ومن الأدلة البارزة على تعمقه فى البحث وغوصه فى الدراسة أنه أصدر حكما اعتُبر فذا فريدا فى مسألة الوقف وهو يقضى بأن الوقف لا يملك بمضى المدة قطعا؛ لأن الوقف نظام شرعى، والشريعة لا تعرف التملك بمضى المدة، ولا يقاس هذا على ما قرره الفقهاء من عدم جواز سماع الدعوى بعد مضى ثلاث وثلاثين سنة».
***
ومن حسن خصال الرجال عدم التبجح فى الخطأ، والعودة إلى الحق، ولو تسبب ذلك فى الحرج، فقد عرضت عليه وهو قاض ابتدائى دعوى «إصابة خطأ» فحكم فيها على المتهم مدة عينها فى حكمه، وما نطق بها حتى انتبه إلى خطئه وأنه قد جاوز حد العقوبة التى وضعها القانون، فالتفت إلى كاتب المحكمة وأخبره أن يكتب أن هذا الحكم خطأ وأن على النيابة أن تستأنفه! فهل من قضاة الشرق والغرب من يفعل هذا اليوم؟!
ثم تمر الأيام ويتقلد سعد باشا زغلول وزارة الحقانية، وتجمعه الأقدار بهذا القاضى الذى سبقه صيته، والذى جمعه به لقاء عابر قبل تلك الواقعة. فقد كان القاضى مصطفى النحاس قد نقل إلى القاهرة، حيث عين عضوا فى إحدى دوائر المحكمة الأهلية؛ فاختلف مصطفى مع رئيس الدائرة (وكان المرحوم على ثاقب بك) بشأن حكم فى قضية كان رئيس المحكمة يريد الحكم فيها بالإدانة، ولم يكن هذا رأى النحاس أحد عضويها، فأبى رئيس الدائرة إلا أن ينطق بالحكم فى الجلسة قبل أن يداول زميله؛ فلم يكن من مصطفى النحاس إلا أن التفت إلى الكاتب فى جرأة وأملاه أن يكتب أن رأيه لم يؤخذ فى هذا الحكم!
ولما ترامى الخبر إلى أسماع سعد باشا طلب لقاء النحاس، وسأله أن يروى له التفاصيل، ويبدو أنه لم يرد أن يحرج زميله الذى أخطأ فتعلل أمام الوزير بأنه قد اصطلح معه، فلما أصر سعد على معرفة الملابسات وقص عليه القصص، قال له معاتبا: ألم يكن هناك مسلك غير هذا تصون به كرامة القضاء، فلما أورد سائر التفاصيل واقتنع الوزير بأن القاضى قد استنفد كل السبل، اقتنع سعد باشا، ونصحه كأخ أكبر أن يلين مع زملائه، فما كان من النحاس إلا أن أكد أنه شديد فى الحق لا يعرف معه لينا، فاستحسن الوزير ذلك وأخبره بأنه مثله، وأنه ينصحه بما لا يفعل! لكنه كرجل كبير يعود إلى نفسه ويندم على شدته مع زملائه.. فما ظنك بالرجلين وقد وقفا معا فيما بعد أمام أكبر قوة باطشة فى العالم، يحاربونها صونا لاستقلال الوطن، واستقطبت زعامتهما ملايين المصريين؟!
***
يقول صاحب الترجمة: «ولا يزال الناس إلى اليوم كلما تذاكروا عهد مصطفى فى القضاء يتناقلون حديث موقفه فى قضية المرحوم محمد محب باشا، مثالا على مبلغ حرص القاضى النزيه على استقلاله، والتمسك بوحى ضميره، والاعتداد الرفيع بقوته وسلطانه فوق منصته، فى غير إشفاق ولا خوف من أكبر سلطان. وكان مصطفى النحاس يومئذ قاضيا فى محكمة عابدين، وكان من بين القضايا التى عرضت عليه قضية رفعها أحد الأعيان على المرحوم محمد محب باشا مدير الغربية فى ذلك الحين، بتهمة الاعتداء عليه، فلم يكد أنصار محب باشا يعرفون أن القضية سوف تعرض على مصطفى النحاس حتى أيقنوا أنه سوف يحكم فيها بروح العدل والإنصاف، وأنه سوف يكون شديدا فى الحق لا يعرف فيه أى اعتبار، ولا يبغى عنه أى حَول، فأرادوا أن يزحزحوه عن موضعه، فعمدوا إلى الدسيسة عليه، إذ أرجفوا بأنه من أشياع الحزب الوطنى وأن سوف يغلِب منزعه السياسى هذا ويستجيب له، فيحكم على محب باشا بالإدانة. وعند ذلك سعت بعض الجماعات سعيها، فدعا المغفور له رشدى باشا (وكان وزيرا للحقانية فى ذلك الحين) الأستاذ مصطفى النحاس قاضى عابدين إلى لقائه، فلما تلاقيا أفهمه الوزير فى سياق حديثه أن المطلوب منه فى قضية محب باشا الحكم له، أو التنحى عن نظرها. فكان جواب مصطفى: أما من حيث الحكم فسيجىء مطابقا لما يقضى به الحق وترضاه العدالة، فإذا كان محب باشا بريئا برأته وإذا كان مدانا عاقبتُه. وأما من ناحية التنحى عن نظر القضية فإن هذا لن يكون، ولكنى مع ذلك لست أريد أن أعرضكم لخطر يهددكم؛ ولهذا سأرفع إليكم استقالتى عقب إصدارى الحكم فى القضية مباشرة... فلم يكد رشدى باشا يسمع هذا القول الرائع الجليل من هذا القاضى الأبى الشهم النزيه الجرىء فى الحق ــ وكان رشدى رجلا ذا عاطفة سريعة التوقد، وشيكة الاستحماء والانبعاث مع الحماسة والاستجابة للجرأة فى الخير ــ حتى ذهب يقول: امض فى القضية كما يوحى إليك ضميرك، وثق أنك إذا استقلت فإننى مستقيل معك!».
أمام هذه الرواية أقف مشدوها لموقف النحاس باشا، وأقف مندهشا لموقف وزير الحقانية الذى لو تناولته أقلام كتاب أفلام ما بعد ثورة يوليو لصورته على هيئة خائن عميل لا يأبه إلى شىء سوى تحقيق مآربه.. الشاهد وان اختلفت الروايات، أن النحاس باشا قد أصدر حكمه فى القضية بإدانة محب باشا وتغريمه، وأن أحدا لم يتعرض له فى حكمه، الذى ظل حديث البلاد فترة طويلة، فكانت تلك من مصانع الأسماء والقيادات والزعامات، التى عز نظيرها اليوم. فقد كانت هذه هى المرة الأولى التى يُعامل فيها مدير إقليم بل حاكم مقاطعة، فى ظل الاحتلال، على هذا النحو، كأنه من آحاد الناس وعامتهم، بل وعقب صدور الحكم أنعم السلطان حسين برتبة «البكوية» على القاضى العادل النزيه مصطفى النحاس، دليل تقدير وبرهان رضوان.
هكذا كان القضاء العادل الشامخ الأبى قائد صحوة الدفاع عن الحقوق والحريات، وصاحب حركة النهضة الحديثة القائمة على دعائم النظام النيابى الدستورى، ومازالت الأمة بخير ما بقى قضاؤها حرا مستقلا.