تختلف الأقوال حول الأصل الفارسى لاسم مدينة «باكو» عاصمة أذربيجان، لكن الأصل الشائع لها هو أنها تعنى المدينة التى تضربها الرياح بشدة! وهذا يمكن إرجاعه إلى كونها تتعرّض لموجات شتاء عنيفة كل عام. هذا العام تستضيف باكو قبل أن يضربها الشتاء قمة المناخ أو قمة الأطراف التاسعة والعشرين COP29 وذلك فى ظل ظروف وملابسات عالمية شديدة الارتباك. استضافة «باكو» لقمة المناخ أعادت إلى الأذهان تناقضات قمم الأطراف التى تتعدد تجلياتها كل عام، حيث تعد هذه المدينة من أقدم مدن العالم التى عرفت الوقود الأحفورى واشتهرت بإنتاجه قبل أن تعرفه مدينة تكساس ذاتها. إذن فالمدينة التى تضربها الرياح كل عام والتى اشتهرت باستخراج النفط تناقش على أراضيها هذه الأيام قضايا كونية مصيرية فى مقدمتها مواجهة تغيّر المناخ والحد من استخدام النفط!
• • •
العنوان الرئيس لقمة هذا العام هو «التمويل»، فى إقرار عالمى بأن التزامات الأطراف تجاه مستهدفات اتفاق باريس، أو تحقيق أى تقدّم فى أجندة المناخ والحد من الانبعاثات الضارة، وتخفيض درجة حرارة الأرض إلى ما دون 1.5 درجة مئوية فوق متوسطها خلال القرن السابق للثورة الصناعية الأولى.. هى كلها أحلام وحبر على الورق ما لم يتوافر التمويل اللازم لها.
فجوة التمويل أصبحت كبيرة للغاية على الرغم من حرص قمم المناخ السابقة على إطلاق عدد من المبادرات والصناديق المعنية بالتكيّف والتعامل مع الأضرار التى يخلفها تغير المناخ فى الدول الفقيرة. من ذلك مثلا صندوق الأضرار والخسائر الذى تم تدشينه كفكرة خلال قمة الأطراف السابعة والعشرين بشرم الشيخ وتم إطلاقه فى اليوم الأول من قمة المناخ التالية بدبى. وقد بدت مساهمات الدول المتقدمة فى هذا الصندوق غاية فى التواضع! حيث إن الصندوق لم يتلق سوى 429 مليون دولار، وهو مبلغ أقل كثيرا من المبلغ المتوقع الذى قد يصل إلى 400 مليار دولار سنويا فى صورة أضرار فى الدول الفقيرة، ونظرا لأن الولايات المتحدة هى المساهم الأكبر فى إجمالى انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحرارى العالمى، فإن مساهمة الولايات المتحدة البالغة 17,5 مليون دولار تبدو ضئيلة للغاية.
كذلك وبحسب بعض التقديرات، ساهمت قمة الأمم المتحدة للمناخ فى دبى فى حشد مبلغ قدره 85 مليار دولار من أموال العمل المناخي، بما فى ذلك صندوق المناخ الأخضر، وصندوق المناخ «ألتيرا».
لقد تضاعف تمويل المناخ العالمى تقريبا من 653 مليار دولار فى 2019-2020 إلى 1,3 تريليون دولار سنويا فى 2021-2022. ومع ذلك، فإن نسبة تمويل المناخ المستخدمة للتكيف آخذة فى الانخفاض، حيث انخفضت من 7% فى 2019-2020 إلى 5% من إجمالى تمويل المناخ فى 2021-2022. وإذا كان استثمار ما بين 5 إلى 7 تريليونات دولار أمريكى سنويا سيكون ضروريا لتحويل الاقتصاد العالمى إلى اقتصاد أخضر بحلول عام 2030 فإن مختلف بدائل التمويل المتاحة اليوم لهذا التحوّل تثير الشفقة ولا تقترب من سد الفجوة التمويلية، خاصة مع سياسات التشديد النقدى التى ترفع من تكلفة رءوس الأموال بما يفوق طاقة الدول النامية والمتقدمة على السواء. وإذا كان مقدرا لقمة المناخ الحالية أن تنجح فإن التعامل الواقعى وربما القطاعى سيكون أكثر مناسبة للاشتباك مع القضايا البيئية، ليس بالطريقة التقليدية التى اعتادت قمم المناخ أن تسلكها، عبر تخصيص ورش عمل متخصصة لتناول قضايا قطاعية، ولكن بتحويل السياق العام للمؤتمر للاشتباك بشكل أساسى مع احتياجات التحوّل فى قطاع بعينه، وجمع الأموال وحشد الجهود لتلك الغاية خلال دورة المؤتمر.
قطاع واحد مثل قطاع النقل بلغت انبعاثات ثانى أكسيد الكربون العالمية منه حوالى 8,2 جيجا طن فى عام 2019 (وفقا لوكالة الطاقة الدولية)، وهو ما يمثّل أكثر من ربع إجمالى انبعاثات ثانى أكسيد الكربون العالمية. منذ عام 2000، ارتفعت الانبعاثات تدريجيًا بنحو 2٪ سنويًا، لكنها نمت بنسبة أقل من 0.5٪ فى عام 2019، ويرجع ذلك فى الغالب إلى مكاسب الكفاءة والتحول الكهربى وزيادة استخدام الوقود الحيوي. تقدر منظمة الصحة العالمية أن أكثر من 80٪ من الأشخاص الذين يعيشون فى المناطق الحضرية حيث يتم مراقبة جودة الهواء يتعرضون لمستويات من التلوث تتجاوز الحدود التى أوصت بها المنظمة.
وفى مجال انتقال الطاقة، من المرجح أن تكون التكلفة التمويلية مرتفعة للغاية نظرا لكثافة الاستثمار المطلوبة للانتقال الطاقى، حيث يتراوح إجمالى التكلفة الرأسمالية المطلوب بحلول عام 2040 من 32,7 مليار دولار أمريكى إلى 94,9 مليار دولار أمريكى، علما بأن الجانب الأكبر المطلوب تقديمه يجب أن يكون قبل حلول عام 2025.
• • •
إن التخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معها والاستجابة لها سوف يتطلب تمويلا إضافيا كبيرا، بما فى ذلك التمويل الميسر بشروط مواتية والذى ترغب الدول النامية أن تتيحه حكومات الدول المتقدمة وليس القطاع الخاص والأهلى. وتشمل الآليات المبتكرة التى ينبغى استكشافها خلال قمة «باكو» الاستخدام الأفضل لرأس المال الهجين؛ والضمانات القائمة على السياسات؛ وضمانات محفظة قروض بنك التنمية المتعدد الأطراف؛ والعمل الخيرى العالمى؛ وإعادة توجيه الدعم غير الفعّال؛ وآليات تسعير الانبعاثات والضرائب، وتداول نقاط الكربون عبر منصات متعددة.
لكن وقبل أن تنطلق فعاليات القمة المشار إليها، كان العالم على موعد مع انتكاسة مرتقبة فى آليات العمل المناخى العالمى، بعودة الرئيس السابق دونالد ترامب مجدداً إلى مكتبه البيضاوى بالبيت الأبيض اعتبارا من يناير القادم. ومن المعروف أن الرئيس الأمريكى المنتخب من المتشككين فى قضية حماية المناخ من التغيّر، وقد وصف الجهود المبذولة لتعزيز الطاقة الخضراء بأنها «عملية احتيال». فإذا كانت مساهمات الولايات المتحدة فى مبادرات وصناديق العمل المناخى مثيرة للشفقة أثناء إدارة الرئيس الحالى «بايدن» فإن عودة «ترامب» تذكرنا بخروج الولايات المتحدة من اتفاق باريس ومن أية تعهدات ملزمة للعمل المناخى والحد من استخدام الوقود الأحفورى، الذى نجحت قمة المناخ بدبى فى الحشد له بشكل مباشر وصريح خلال إجماع الإمارات.
ورغم أن الولايات المتحدة قد تنسحب من اتفاق باريس بسرعة ولفترة أطول هذه المرة (الانسحاب السابق شهد خروج ترامب من السلطة بعد نفاذه مباشرة)، فإن ترامب سوف يظل ملزما بأطر عالمية أخرى لمكافحة تغير المناخ. وكانت هناك تقارير تفيد بأن بعض أنصار الرئيس المنتخب يريدونه أن يدير ظهره لتلك الأطر. وقد زعم البعض ضرورة الانفصال التام عن جهود الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ، وحثوا الرئيس المنتخب على الانسحاب من ما يسمى باتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، وهى المعاهدة التى تدعم العمل الجماعى العالمى لمعالجة تغير المناخ.
• • •
على أية حال فإن أسواق المال نادرا ما تخطئ فى استشراف المستقبل القريب، وقد كانت الخسائر الضخمة التى تكبدتها الصناديق والمحافظ التى تستثمر فى مجالات الاستدامة وانتقال الطاقة وتلك التى تراهن على العمل المناخي.. كاشفة عن ردة مقلقة فى هذا المضمار فى أعقاب الانتخابات الأمريكية. وهو الأمر الذى يهدد قمة "باكو" بأن تخرج خالية الوفاض، بعدما بدأت فاترة ضعيفة التمثيل وأوشكت على لملمة أوراقها بغير إنجاز واضح.
سألت ابنتى الطالبة فى المرحلة الثانوية عن مدلول كلمة «باكو» فى مصطلحات جيلها، إذ كانت ترتبط فى جيلنا بمنتج محبب إلى الأطفال وهو اللبان، فكان أحدنا يشترى بمصروفه «باكو» لبان وحاجة ساقعة.. أما جيل ابنتى فلا يعرفون المصطلح إلا من الأفلام والأقرب لفهمهم هو «باكو» آخر بمعنى ألف جنيه، والتى فقدت هيبتها وقدرتها الشرائية لتلامس اليوم ما كان يعنيه باكو اللبان فى عهد غابر.