اقتصاديات الجمال وضريبة القبح - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:43 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اقتصاديات الجمال وضريبة القبح

نشر فى : الإثنين 19 فبراير 2018 - 10:20 م | آخر تحديث : الإثنين 19 فبراير 2018 - 10:20 م

إنك لا تكاد تذكر معنى مجردا أو قيمة إنسانية راسخة فى الوجدان، إلا وجدت لها اتصالا بعلم الاقتصاد. جرب أن تبحث عن كلمات مثل الحق أو العدل أو الخير... على شبكة الإنترنت، ثم اقرن بحثك بكلمة «اقتصاديات» فسوف يدهشك عدد الأبحاث والمقالات العلمية الموثقة والمنشورة فى كبرى المعاهد والجامعات والمجلات التى تناولت اقتصاديات هذا الفرع أو ذاك!

بالأمس القريب طُبِعت فى مخيلتى صورة المعمار فى مناطق القاهرة الخديوية، وأخذت أعقد مقارنة بسيطة بين البراعة الفنية والملامح الجمالية التى حرص عليها المعماريون آنذاك، مع تكلفة إضافة تلك اللمسات بأسعار وجنيهات تلك الحقبة طبعا، وبين الكتل القبيحة من الخرسانة والطوب الأحمر التى تنتشر أميالا على جنبات الطرق السريعة فى مصر. كم كانت التكلفة المباشرة لإنشاء تلك الكتل الشائهة؟ كم هى مضاعفات تلك التكاليف إن أخذنا فى الاعتبار الفرصة البديلة لاستغلال الأرض المجرفة والمتعدى عليها فى الزراعة والتشجير، فضلا عن ضريبة القبح الضخمة التى يتكبدها الشعب كله والسائحون الوافدون لدى النظر إلى تلك البنايات القبيحة. ضريبة يدفعها الناظرة من مزاجهم ومعنوياتهم، التى تنعكس سلبا بالقطع على إنتاجيتهم وسعادتهم التى هى ضالة المرء فى سعيه كوحدة اقتصادية، ومن قبل ذلك ككائن حى.

حملتنى تلك الخاطرة على البحث عن مدلول اقتصادى للجمال، فوجدت مقالات وأطروحات فى «اقتصاديات الجمال»، كان للاقتصادى الكبير «جارى بيكر» ــ الحائز على نوبل فى الاقتصاد ــ مساهمة فيها. صحيح أن «بيكر» الذى اشتهر بكونه عالما مزج بين علمى الاجتماع والاقتصاد قد تناول «الجمال» فى سياق آخر يدور حول «التمييز» على أسس الجمال، والتى تتضمن حصول من يتمتعون بجمال طبيعى على أجور إضافية، وفرص أفضل فى الحصول على الوظائف من أولئك المحرومين من هذا الجمال، وفى المقابل يؤكد «بيكر» على أن ذلك التمييز يأتى غراما وخسارة على المؤسسات التى تتبناه، نظرا لكونه يحرم المؤسسة من العاملين الأقل جمالا وإن كانوا أكثر إنتاجية، كما يحرم تلك المؤسسات من شريحة من العاملين أقل أجرا بالطبع، ومن ثم فتلك المؤسسات إما إنها تخسر أو فى القليل لا تنافس على نحو مناسب.

دراسات أخرى تناولت «الجمال» من حيث كونه موردا يتمتع بالندرة والقابلية للتداول. فالمتمتعات بالجمال يمكنهن الحصول على وظيفة أفضل ورواتب أكبر نظير جمالهن، ومن هذا المدخل يمتد التحليل إلى امتهان أقدم مهنة فى التاريخ، والأثر الاقتصادى لممارسة البغاء، إلى غير ذلك من جنوح وتخريجات فى تناول تلك المسألة.

***

لكن الجمال الذى أكتب عنه اليوم ليس ميزة نسبية أو موردا طبيعيا اختص الله به بعض الناس دون البعض الآخر. بل هو ميزة تنافسية يمكن أن يخلقها أى مجتمع إن هو أحسن استغلال موارده الأساسية فى مراعاة اللمسات الجمالية فى كل ما يشيده ويقيمه. الحس الجمالى يمكن توفيره دون إنفاق الكثير من الأموال، فالتكلفة المباشرة لإقامة البنايات القبيحة التى ذكرتها فى أول المقال غالبا ما تكون أكبر من تكلفة إقامة منازل بمواد محلية وتهوية طبيعية ونسق معمارى يتمتع بالجمال والاتساق، وتجربة المهندس «حسن فتحى» فى قرية القرنة الجديدة غرب مدينة الأقصر خير دليل على ذلك.

بدأ «فتحى» مشروع بناء القرية عام 1946 بمجاورات سكنية يفصل بينها شوارع عريضة لتكون محاور لحركة المرور الرئيسة، بينما الشوارع بداخل المجاورة ضيقة ومتعرجة لتوفير الظلال والألفة بين السكان واستخدام الشوارع من سكان المجاورة فقط، فقد جعل لكل قبيلة مجاورة خاصة بها فلم يحاول تغيير عاداتهم ولكنه احترم الثقافة المحلية والتقاليد القبلية. اعتمد المهندس الفنان «حسن فتحى» فى تصميم المنازل على الخامات والمواد المحلية (الطوب اللبن) واستخدم تقنية بناء متوافقة مع متطلبات البيئة، فبرغم من حرارة الجو القاسية فى تلك المنطقة، فالبيوت جيدة التهوية. تأثر «حسن فتحى» بالعمارة الإسلامية والمحلية النوبية فكان للقباب تصميمها الفريد المستخدم بدلا من الأسقف التى تعتمد على الألواح الخشبية أو الخرسانة المسلحة، علما بأن تكلفة بناء المنزل الواحد لم تكن تتعدى 250 جنيها مصريا بينما تكلف منزل خرسانى بنفس المساحة أقامه «مركز بحوث البناء» مبلغا قدره 1000 جنيه مصرى.

جمال المعمار ليس حكرا على أثرياء القاهرة الخديوية فحسب، بل هو حق مشروع للكافة، والنماذج كثيرة فى مصر وخارجها على إقامة منازل بسيطة بالطوب اللبن والأخشاب، تراعى الحس الجمالى ولا تتسبب فى التلوث البصرى الذى بات ضريبة يومية يدفعها كل من أراد الخروج من المنتجعات السكنية الجديدة ليفجعه الواقع بنماذج فريدة من القبح، اتحدت مع مخالفات فى البناء ومخاطر ظاهرة على أرواح البشر. هذه عمارة من عشرة طوابق أقيمت على بضعة أمتار لاستغلال مساحة صغيرة من أرض زراعية تم تجريفها من أجل اغتنام فرصة الاستثمار العقارى! وتلك بناية عجيبة تتحدى فى تصميمها وتنفيذها المنطق البشرى المجرد ناهيك عن علم الهندسة وفنون العمارة!

***

من هذا المنطلق يقترب تناولى للميزة التنافسية للجمال المكتسب، بتناول العديد من الباحثين فى علم الاقتصاد لصور وبدائل الإنفاق على مواد التجميل والأزياء المواكبة للذوق العام. مئات المليارات من الدولارات تنفق سنويا على مواد التجميل وجراحاته التى تهدف إلى اكتساب صورة من صور الجمال، ومثلها تنفق من أجل إرسال إشارات تحمل رسالة الجمال فى كل ما يرتديه المرء ويركبه ويعيش فيه من ممتلكات.

إلحاح الحاجة ومراعاة الجانب العملى فى توفير متطلبات المعيشة فى مصر حاد بالكثير منا عن إدراك اقتصاديات الجمال وعائداته الوفيرة التى تفوق كثيرا ما ينفق على اكتسابه من تكاليف مباشرة. هل أحصى أحد الاقتصاديين الإيرادات السياحية للعمارة الخديوية فى منطقة وسط البلد بالقاهرة عبر السنين؟ هل أحصى أحدهم العائد الاقتصادى والوفورات الاقتصادية للممرات التى توجد بين عمارات وسط البلد، والتى كان الغرض منها توفير مساحة للمحال التجارية بعيدا عن واجهات العمارات حتى لا تشوهها وتحقيقا للأهداف الاقتصادية لأصحاب البيوت والمتاجر فى آن؟ هل قدر أحدهم المزايا البيئية الكثيرة التى تتمتع بها البنايات ذات اللمسات الجمالية مقارنة بتلك «البلوكات» المتراصة القبيحة التى انتشرت فى أرجاء البلاد تحت مسميات مختلفة مسبوقة بكلمة «مساكن»؟! بالتأكيد لن أسأل عن العائد الاقتصادى للإتقان المعمارى والجمالى للمعابد الفرعونية والآثار البطلمية والقبطية والإسلامية والمملوكية... لأن أحدا لن يستطيع أن يقدره إلا اجتهادا.

هناك ضرورة عاجلة لسن تشريعات تجرم بشكل حاسم كل مظاهر القبح المنتشرة فى مختلف المدن والقرى وعلى امتداد الطرق والمحاور الرئيسة. هناك ضرورة لسن تشريعات تمنع البناء خارج أنساق وتصاميم تفرضها السلطات المحلية، مستعينة بخبراء وفنانى مصر والعالم بغية الحد من التلوث البصرى والقبح المعمارى الذى انتشر فى البلاد كالسرطان.

وفورات الجمال كثيرة، نلمسها فى زيادة الإنتاجية، والحد من الأمراض النفسية والاجتماعية والعضوية، وانتشار الطاقة الإيجابية بين الناس، وتوفير عناصر الجذب السياحى، وتشجيع الإتقان وتحقيق التوازن النفسى والبيئى.. وضرائب القبح كثيرة نسددها يوميا فى صورة اضطراب، واكتئاب، وضعف إنتاجية، وأمراض عضوية، ونفور سياحى، وانكفاء على الذات، وفشل فى تحقيق المزايا التنافسية لمختلف المنتجات، بما ينعكس سلبا على التصدير والحد من الاستيراد.

يقول الأديب الفرنسى «فيكتور هوجو»: من يحب الجمال يبصر النور.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات