انعقد فى شهر يناير الماضى الاجتماع السنوى الرابع والخمسين للمنتدى الاقتصادى العالمى، بمدينة «دافوس» السويسرية، خلال فترة حرجة متخمة بالأزمات، مما أكد على أهمية التعاون الدولى فى مواجهة التحديات المختلفة. وتشمل تلك التحديات التهديدات المتزايدة الناجمة عن ظاهرة الاحترار العالمى، والتباطؤ الاقتصادى، وارتفاع تكاليف التمويل، وتدهور أمن التجارة والنقل... وهذه المخاوف تتجاوز حدود الدول وتؤثر على الجميع.
تمكن المنتدى خلال نسخة هذا العام من استضافة أكثر من ثلاثة آلاف قيادى من القطاعين الخاص والعام والقطاع الحكومى، وكذلك من مختلف الأجيال. وقد تناول منتدى دافوس 2024 أربع قضايا رئيسة على النحو التالى: (1) تحقيق الأمن والتعاون فى عالم منقسم، (2) تعزيز التنمية وفرص العمل للمرحلة القادمة، (3) تسخير الذكاء الاصطناعى كقوة دافعة فى الاقتصاد والمجتمع، و(4) وضع استراتيجية طويلة المدى للمناخ والبيئة والطاقة.
ويغطى المنتدى كل عام مجموعة واسعة من الموضوعات الكبرى، بما فى ذلك الاستدامة والأزمات العالمية وتحديات الطاقة ومستقبل العمل والابتكار والصحة والغذاء وغيرها من القضايا التى تؤثر على الأفراد والمجتمعات. كان شعار دافوس 2024 هو «إعادة بناء الثقة»، مع التركيز على استعادة الثقة على ثلاثة مستويات: للمستقبل، وداخل المجتمعات، وبين الدول.
كان الحضور العربى فى المنتدى هذا العام استثنائيا. شاركت وفود عربية فى فاعليات متنوعة، وارتفعت نسبة مشاركة القطاع الخاص فى بعض الوفود العربية إلى ما يقارب 80%، كما هى الحال مع الوفد الإماراتى، الذى كان ثالث أكبر وفد ممثلا فى المنتدى هذا العام. شملت القضايا التى تمت مناقشتها، تلك التى كان لها تأثير كبير على أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، خاصة فى ظل تداعيات الحرب التى اندلعت فى 7 أكتوبر 2023، فضلا عن تطورات الوضع الأمنى فى منطقة مضيق باب المندب وسلبياته على التجارة والملاحة فى البحر الأحمر، والمخاطر التى يمكن أن يشكلها على النمو الاقتصادى فى المنطقة بأسرها.
ومع ذلك، تجاوزت المشاركة العربية هذه المخاوف الإقليمية، حيث لعبت دورا بارزا فى استضافة وإطلاق مبادرات مثل مبادرة «تكنولوجيا التجارة»، التى وقعت الإمارات العربية مذكرة تفاهم بشأنها مع المنتدى. بالإضافة إلى ذلك، هناك متابعة مستمرة لنتائج قمتى المناخ المتتاليتين فى شرم الشيخ ودبى، إلى جانب توصيات العمل لحشد الأموال لدعم أهداف القمتين.
• • •
جمع دافوس زعماء من غرب البلقان والاتحاد الأوروبى. أكدوا جميعا التزامهم بمستقبل أوروبى مشترك، يتمحور حول النمو والاستقرار الإقليميين. بالإضافة إلى ذلك، كشفت «مبادرة الاستثمار فى الشئون الإنسانية والقدرة على الصمود» عن أكثر من 50 التزاما تهدف إلى تعزيز الاستثمار المؤثر. أما مبادرة «مستقبل النمو» فهى حملة مدتها عامان، تهدف إلى تجاوز فكرة النمو الاقتصادى التقليدى، إلى مساعدة صانعى السياسات والاقتصاديين على تبادل الأفكار الجديدة وأفضل الممارسات، بغية تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادى وأهداف الابتكار والشمول والاستدامة والمرونة.
وتدعو مبادرة «التجارة التقنية الدولية» إلى الاستخدام التعاونى للتكنولوجيا فى التجارة الدولية، بهدف تسهيل ضخ مليارات الدولارات فى التجارة. لقد مهدت الرؤى الجديدة حول «مستقبل التكنولوجيا المالية العالمية» الطريق نحو نمو مرن وشامل فى الصناعة ومستقبل الاستراتيجية الصناعية. يسلط هذا الجهد الضوء على آفاق مشاركة الشركات والحكومات فى إطلاق الجيل المقبل من الاستراتيجيات الصناعية. وقد أحرز المشاركون فى المبادرة تقدما كبيرا فى العمل المناخى، وحماية الطبيعة، وانتقال الطاقة.
وقد أطلق المنتدى شبكة لتعبئة الاستثمار فى الطاقة النظيفة لجنوب العالم. تلك الشبكة تهدف إلى المساعدة فى تعبئة ما يقدر بثلاثة تريليونات دولار أمريكى ضرورية لتحول الطاقة. كذلك، تعد منصة «تريليون شجرة» التابعة للمنتدى الاقتصادى العالمى، بمثابة إجراء هام آخر، حيث تعهدت أكثر من 100 شركة بالحفاظ على 12 مليار شجرة واستعادتها وزراعتها. كما أطلق تحالف «حوكمة الذكاء الاصطناعى» مسعى عالميا جديدا لتحسين وصول الذكاء الاصطناعى إلى جوهر الثورة الصناعية الرابعة. وقد تم توسيع هذا التحالف ليضم مراكز إضافية فى كل من ألمانيا وفيتنام وقطر.
وتطمح مبادرة «ثورة إعادة تشكيل المهارات» إلى تمكين مليار شخص حول العالم، عبر تزويدهم بالتعليم والمهارات والفرص الاقتصادية بحلول عام 2030. وقد وصلت بالفعل إلى أكثر من 680 مليون فرد، بأدوات لتحسين مهارات التعليم وفرص العمل. وقد شهد المنتدى فى دورته هذا العام انضمام كل من الفلبين وفيتنام وقطر إلى شبكة متنامية تضم 20 دولة تركز على استثمارات رأس المال البشرى.
• • •
كانت إحدى القضايا المحورية التى تمت مناقشتها خلال دافوس هذا العام هى تأثير «تراجع العولمة». والذى نتج فى الأساس عن ارتباك سلاسل الإمداد، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، من بين متغيرات جيوسياسية عالمية وإقليمية أخرى. وناقش الاقتصاديون فى المنتدى التأثير غير المتماثل لتراجع العولمة على الأنشطة التجارية. فقد استفادت المكسيك بالفعل من سياسة التحول إلى الدول القريبة near shoring، بعدما خسرت حصتها فى سوق الولايات المتحدة لصالح الصين، منذ انضمام الأخيرة إلى منظمة التجارة العالمية. وقد خلقت القيود التجارية المفروضة على دخول السلع الصينية إلى السوق الأمريكية، عوامل خارجية مواتية للمكسيك، مما سمح لها باستعادة حصتها السوقية داخل أكبر اقتصاد فى العالم.
وقد تعمل الدول العربية أيضا على اغتنام فرصة تراجع تيار العولمة لتحسين تجارتها البينية، من خلال تبنى مفهوم التقارب الإقليمى، ما من شأنه المساعدة على تحسين موازين مدفوعاتها مقابل الاقتصادات الغربية. علما بأنه لم يتم تطبيق منطقة التجارة الحرة العربية (PAFTA) بشكل كامل حتى اليوم. إذ كان من المخطط أن يتم إنهاء جميع قيود التجارة بين الدول العربية الأعضاء تدريجيا خلال الفترة ما بين 1 يناير 1998 و1 يناير 2005، بهدف إنشاء منطقة التجارة الحرة العربية.
وفقا لتقديرات تم إجراؤها فى أكتوبر 2023، تتوقع منظمة التجارة العالمية (WTO) أن تنمو التجارة العالمية بنسبة 3,3٪ فى عام 2024. مع ذلك، أعرب الاقتصاديون فى المنتدى الاقتصادى العالمى عن مخاوفهم بشأن سوق رأس المال، بحجة أن تراجع العولمة سيكون له عواقب سلبية على كل بلد تقريبا.
ورغم تعافى بعض المؤشرات الاقتصادية بنهاية العام 2023، فإن «كريستين لاجارد» رئيس البنك المركزى الأوروبى، لا تتوقع العودة إلى «الوضع الطبيعى» الاقتصادى حتى نهاية عام 2024. ويتميز «الوضع الطبيعى الجديد» للاقتصاد العالمى بتطور الذكاء الاصطناعى وزيادة حدة المخاوف الجيوسياسية. وأشارت «لاجارد» إلى فترة ما بعد الجائحة بأنها «غريبة وغير عادية ويصعب تحليلها». كما سلطت الضوء على ثلاثة عوامل استقرار مقارنة بالعام السابق تتمثل فى: الاستهلاك والتجارة والتضخم. شاركت «لاجارد» تلك الأفكار خلال جلسة نقاش بلومبرج فى المنتدى الاقتصادى العالمى 2024.
• • •
النسخة القادمة من المنتدى الاقتصادى العالمى ستعقد فى عالم يموج بتحولات جذرية. وإذا كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية، المقرر عقدها بنهاية العام، قد تعيد «دونالد ترامب» إلى سدة الحكم، فمن المرجح أن تكون إدارته الجديدة امتدادا لإدارته السابقة. وقد اتسمت إدارة ترامب الأخيرة باعتماد مبدأ الانكفاء حول الذات، وإعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية لتفضيل الحلفاء على المنافسين وبالأخص الصين وروسيا. وكانت حرب الرقائق مع الصين أحد الأمثلة على ذلك النهج. ومن المرجح أيضا أن تؤدى رئاسة ترامب المتوقعة إلى تقويض الدعم الحالى الذى تقدمه الولايات المتحدة للعمل المناخى. يتذكر العالم الأول من يونيو 2017، عندما أعلن الرئيس دونالد ترامب أن الولايات المتحدة ستنسحب من اتفاق باريس لعام 2015 بشأن التخفيف من آثار تغير المناخ، زاعما أن الاتفاق من شأنه أن «يقوض» اقتصاد الولايات المتحدة ويضعه «فى وضع غير موات بشكل دائم».
سيستمر التيسير النقدى التدريجى فى الولايات المتحدة وأوروبا حتى عام 2025، مع انخفاض ضغوط التضخم والهبوط الناعم للسياسة النقدية الأمريكية فى عام 2023. وغالبا ما ستقوم البنوك المركزية حول العالم بخفض أسعار الفائدة وزيادة المعروض النقدى فى الأسواق. وسيكون لذلك تأثير إيجابى على تكلفة التمويل ونمو الناتج المحلى الإجمالى العالمى؛ ومع ذلك، فإن التباطؤ الصينى المتوقع، الناجم عن أزمة العقارات، قد يحد من هذا التأثير الإيجابى، كما هى الحال مع ارتفاع أسعار الوقود.