ملامح الثورة الصناعية الرابعة - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 2:32 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ملامح الثورة الصناعية الرابعة

نشر فى : الإثنين 19 مارس 2018 - 9:20 م | آخر تحديث : الإثنين 19 مارس 2018 - 9:20 م

عندما ألف «كلاوس شواب» المؤسس والرئيس التنفيذى لمنتدى الاقتصاد العالمى كتابه الشهير «الثورة الصناعية الرابعة» الصادر فى عام 2016 ألقى بذلك حجرا فى بحيرة راكدة منذ سنوات، بفعل اضطراب النظرة الاقتصادية إلى مستقبل الصناعة فى العالم، فى ظل تبخر العديد من الوظائف المحلية فى المجال الصناعى، وتراجع الاستثمار فى مختلف القطاعات الصناعية التقليدية كنتيجة طبيعية للعولمة، وما أفرزته من تلاشى الحدود، ورواج التجارة الدولية، وسهولة تدفقات رءوس الأموال.

الكتاب يلقى الضوء على الثورة التكنولوجية الرقمية التى يعيشها العالم اليوم، والتى تؤثر فى نمط معيشة سكان الكوكب وأساليب عملهم، ومن المجالات المهمة التى أراد المؤلف أن يبرزها، التطورات فى مجال الذكاء الصناعى والروبوتيكس، والنانو تكنولوجى، والتكنولوجيا الحيوية، والحوسبة الكمية quantum computing، وسلاسل الكتل blockchain، وانترنت الأشياء، وتكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد.. وغيرها من تطورات تكنولوجية لها تداعياتها المؤثرة على مختلف الصناعات والخدمات.

يرى «شواب» من خلال مؤلفه أن العالم قد مر بثلاث ثورات صناعية قبل تلك الثورة الرابعة التى نعيش تفاصيلها حاليا ونترقب نتائجها مستقبلا، فالثورة الأولى كانت فى القرن الثامن عشر مع اختراع المحركات البخارية، واستخدامها فى الإنتاج الميكانيكى وتطوير وسائل النقل، والثانية واكبت التوسع فى استخدام الكهرباء ومبدأ تقسيم العمل الذى وضعه مؤسس علم الاقتصاد «آدم سميث» والذى جاء معه الإنتاج الكثيف، والثالثة نشأت فى منتصف القرن الماضى مع تطور مفهوم تكنولوجيا المعلومات وظهور الحاسب الآلى، واليوم نمر بثورة رابعة يتم فيها التحول إلى الرقمنة digitalization فى مختلف مجالات العمل والحياة.
***

الكتاب ينقسم إلى خمسة أجزاء، يبدأ بالمقدمة التى يضع المؤلف خلالها أساسا لمنتجه المعرفى، ثم يتجه فى الجزء الثانى إلى وصف العوامل المحركة للثورة الصناعية الرابعة، والاتجاهات الكبرى المتمثلة فى مظاهر ثلاثة هى: المظهر المادى physical والمظهر الرقمى digital والمظهر البيولوجى biological لتلك الثورة.

هذه المظاهر الثلاثة تنعكس على الواقع العملى، فتخلق سياقا مستقبليا شديد الاختلاف للمجتمعات البشرية قبل نهاية القرن الحالى، ومن صور الاختلاف المرتقبة ما ساد من توقعات مفادها أن بحلول العام 2025 سيكون 10% من الملابس التى يرتديها الناس متصلة بشبكة الانترنت! وأن روبوتا أو إنسانا آليا يجسد الذكاء الصناعى المتطور والمفكر سوف يكون عضوا فاعلا فى مجالس إدارات المؤسسات!، وأن كبدا صناعيا باستخدام تكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد سوف يتم زرعه بنجاح فى جسد مريض!

الجزء الثالث والأكبر من الكتاب يحاول أن يكتشف المؤلف من خلاله الأثر المرتقب للثورة الصناعية الرابعة على كل من الاقتصاد الدولى، التجارة، الأمن الدولى، الهوية، الأخلاقيات، الآداب العامة، الروابط البشرية.

أما فى الجزء الرابع فقد وضع «شواب» تصورا لما يتحتم الاستعداد له للمضى قدما تحت عنوان the way forward. والجزء الخامس والأخير تضمن الشكر والتقدير لبعض الأشخاص والجهات.

الكتاب يعطى لمحة عن العالم الجديد سريع التغيير، والذى لم يستغرق سوى عقد من الزمان ليخرج الإنترنت من حوزة دول العالم الأول إلى كل أرجاء الأرض، بينما استغرقت الثورة الصناعية الأولى نحو 120 عاما لتخرج من أوروبا إلى مختلف البلاد. الفجوة بين دول العالم تضيق بمعدلات أسرع مما كانت عليه فى القرنين الماضيين، ومن المتوقع أن تتلاشى تماما أى فجوة تكنولوجية لو لم تعمل الحكومات ومؤسسات المجتمع المدنى على وقف هذا المد الطبيعى، ولم تعتبره تهديدا لأمنها واستقرارها.
***

التكنولوجيات الحديثة التى اعتبرها «شواب» من محركات الثورة الصناعية الرابعة، تلقى بظلالها على كل من جانبى العرض والطلب للأعمال. فقد أصبحت ملكيتك لمنصة تجمع العملاء من المستهلكين لسلعتك وخدمتك أفضل وأكثر ربحية من ملكيتك أصل من الأصول الثمينة. شركات خدمات التوصيل التشاركى مثل «أوبر» لا تمتلك أسطولا من السيارات، ولكنها تمتلك منصة لأداء خدمتها، كذلك فموقع «فيسبوك» الأشهر فى مجال التواصل الاجتماعى لا يخلق أى محتوى خاص، أما موقع «على بابا» الذى يعد الأهم فى مجال تجارة التجزئة فلا يملك أى مخزون، أما إير بى إن بى Airbnb فهو أكبر من يقدم خدمات الإقامة عبر الانترنت ولكنه لا يملك أى أصول عقارية.. هذا التطور الذى ربما تراه ــ مثل «شواب» ــ وجها من وجوه «التدمير الخلاق»، يلاحظ معه المؤلف تراجع متوسط عمر المنشأة التقليدية المدرجة على مؤشر ستاندرد آند بورز من 60 عاما إلى ما يقرب من 18 عاما فقط!.. وبالتالى فمن الأهمية بمكان أن تستوعب الشركات القائمة هذا التطور التكنولوجى العنيف، وأن تحتضنه بين جدرانها، فلكى تبقى الشركات قائمة أمام هذا التيار الجديد فعليها أن تبتكر بصورة متواصلة وبلا توقف، وإلا تعرضت للانقراض السريع.

التحول إذن من هياكل تنظيمية تقوم على الضوابط والأوامر، إلى هياكل تقوم على العمل الجماعى وروح الفريق، هو أمر حتمى لتطور الشركات فى مواجهة موجات التدمير الخلاقة، التى تتوالى تحت أستار التكنولوجيا الحديثة والابتكارات الجديدة.

الثورة الصناعية الرابعة من شأنها أن تكون أكثر إنصافا لفئة المهمشين اقتصاديا، الذين صار بمقدورهم الوصول إلى مختلف المعلومات والخدمات بسهولة عبر شبكات رقمية. من شأن تلك الثورة أيضا أن ترفع من كفاءة المؤسسات، وتعجل من تطوير الخدمات الصحية، وربما أمكنها معالجة أزمة تغير المناخ.

لكن «شواب» يختتم كتابه بعدد من الاحتمالات أو قل المخاطر التى ربما تنتج عن الثورة الصناعية الرابعة، أهمها تحول الإنسانية إلى الآلية robotise humanity بما يترتب عليه ذلك من تداعيات اجتماعية. بيد أن هذا الخطر يمكن أن يكون فرصة لتحقيق نهضة حضارية جديدة فى حياة وثقافة الجنس البشرى، فقط إذا ما تم التعامل معه بحكمة ودرجة عالية من المسئولية كما يؤكد المؤلف، خاصة إذا أمكن بلورة شعور جامع بوحدة المصير لمختلف سكان الأرض.

الكتاب ــ بإقرار من مؤلفه ــ يعكس رؤية شخصية لمؤسس منتدى الاقتصاد العالمى التى تراكمت عبر سنوات عدة قضاها فى أروقة «دافوس» (تحديدا منذ عام 1971). وهو نتاج حكمة أفرزتها اجتماعات المنتدى ونقاشاته، وحشدها بشىء من العجلة بين دفتى كتابه.
***

لكن هل تهدد تلك الثورة الصناعية الرابعة الصناعات التقليدية بصورتها القائمة؟ هل تختفى صناعات تحويلية مثل الغزل والنسيج، وصناعات ثقيلة مثل الحديد والصلب والألومنيوم والنحاس، وصناعات تعدينية واستخراجية تنتج خامات الأرض من الفوسفات والمنجنيز والنفط..؟ بالتأكيد لن تختفى وإن انخفض العائد على الاستثمار فيها، وخرج العديد من العاملين بها من الخدمة لأسباب اقتصادية وتمويلية. ولو افترضنا أنها اختفت بفعل الضغوط الاقتصادية، فسرعان ما تتحول إلى الندرة النسبية ثم إلى ندرة مطلقة يتحتم معها قيام تلك الصناعات بأى ثمن وبأعلى عائد ممكن على الاستثمار.. هذه طبيعة الأسواق وسننها فى الاقتصاد.

نحن نملك اليوم رفاهة الحديث عن التوسع فى اقتصاد الخدمات، والاقتصاد الرقمى لأننا نأخذ ما هو قائم بالفعل من صناعات تقليدية مأخذ المسلمات.. لكن إذا تراكمت الصعاب على هذا النوع من الصناعات، وفشلت خطط إنقاذها عبر الأدوات الحمائية التى تنتهجها الإدارة الأمريكية حاليا مشعلة أوار حرب تجارية ضروس، فإن بدء فناء الصناعات والحرف هو المؤذن بندرتها، التى تحمل معها العائد المناسب لجذب الاستثمارات فيها.

لا يمكن إذن لكل الناس أن يتجهوا للعمل فى مجالات التسويق الإلكترونى، أو التجارة الرقمية، أو التعدين فى العملات الرقمية... وإلا كان لزاما على الإنسان أن يجد لنفسه واقعا افتراضيا متكاملا يعيش فيه، كأنه شخصية رقمية فى لعبة من إنتاج الذكاء الصناعى، تماما كما نرى فى أفلام الخيال العلمى.. الحد الأدنى من الاحتياجات المادية للبشر يجب أن يجد من يوفره عبر الأدوات والماكينات الناتجة عن الثورات الصناعية الثلاث الأولى، على أن تستدعى منتجات الثورة الصناعية الرابعة بصورة متدرجة لتحقيق التطور اللازم لاستمرار النوع وليس القائم على هدمه وبناء غيره، لأن أحدا لن يستطيع أن يحقق ذلك فى ظل ارتفاع التكلفة الاقتصادية والاجتماعية بل والإنسانية الباهظة لإحلال الآلات محل البشر فى مختلف أوجه الحياه، ولتحويل كل ما هو مادى إلى رقمى وافتراضى.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات