مجالس الحوار الوطني المتخصصة - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 2:04 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مجالس الحوار الوطني المتخصصة

نشر فى : الإثنين 19 يونيو 2023 - 7:15 م | آخر تحديث : الإثنين 19 يونيو 2023 - 7:15 م

خلال الأسابيع القليلة الماضية دعيت للمشاركة فى أكثر من لقاء نقاشى هدفه تناول مسائل اقتصادية متنوعة. فما كدنا نختتم فاعليات المؤتمر الاقتصادى الذى عقد بافتتاح ورعاية رئاسية فى العاصمة الإدارية الجديدة نهاية أكتوبر الماضى (23 ــ 25 أكتوبر 2022) حتى وجدتنى مدعوا لورشة عمل استضافها معهد التخطيط القومى للنظر فى كيفية التعامل مع شُح العملة الصعبة فى مصر ومستقبل الدولار الأمريكى فى التعاملات. تزامن مع تلك الورشة سلسلة من ورش العمل والندوات استضافها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء بتكليف رئاسى لدراسة عدد من القضايا الاقتصادية ذات الأولوية. وقد شاركت شخصيا فى ورشتى الطاقة، والسياسة المالية. ثم جاءت جلسات المحور الاقتصادى بالحوار الوطنى الذى انطلق أول مايو الماضى لتناقش قضايا اقتصادية مهمة، تتقاطع بالضرورة مع القضايا التى تناولتها ورش العمل والندوات والمؤتمرات المشار إليها سابقا. وقد شاركت فى جلسات الحوار الوطنى حتى كتابة هذه السطور بجلستى تشجيع الاستثمارات الخاصة وأولويات الاستثمار العام وملكية الدولة.
وإذا كان لى أن أبحث عن إطار جامع لتلك الجهود القيمة، التى بمقدورها تعويض مصر عمّا تفتقده من مراكز الأفكار الاقتصادية، فسوف أطلق هذا البحث من مقدمات أساسية لتحليل عناصر القوة والضعف فى حاضنات الحوار المختلفة، مع التركيز على تجربتى الشخصية فى كل من المؤتمر الاقتصادى وندوات وورش عمل معهد التخطيط ومركز معلومات مجلس الوزراء، ثم فى جلسات الحوار الوطنى الحالى.
• • •
أما عن المؤتمر الاقتصادى فقد تعددت جلساته ومخرجاته، وامتاز بدعم رئاسى، وبتمثيل عادل لمختلف القوى والأطياف، وبحضور قوى من أعضاء السلطة التنفيذية. كما تميز المؤتمر بحرص رئيس الوزراء على حضور عدد كبير من الجلسات! مع مراعاة الشفافية إلى أبعد الحدود، عبر إذاعة معظم جلسات المؤتمر على الهواء مباشرة، وتغطية بعضها فى البرامج الحوارية على مدى أيام المؤتمر الثلاثة.
لكن المؤتمر وكما ألمح السيد الرئيس نفسه فى كلمته الختامية، جاء ليسلط الضوء على العناوين الرئيسة للقضايا الاقتصادية، حتى إن معظم التوصيات التى تليت فى الختام يمكن أن يأتى بها طلاب الفرقة الأولى من كلية الاقتصاد على حد وصف رئيس الجمهورية. وهذا صحيح؛ نتيجة لتعدد القضايا، وقيدى الوقت وتوزيع الكلمات، وأحيانا أسلوب إدارة الجلسات.. بل إن تلك السطحية التى اتسمت بها التوصيات تأتى من كونها جمعت بليلٍ، لتسطر خاتمة الجلسات، وتمهّد لعمل شاق منتظر، قدّر له أن يبدأ عند إطلاق جرس النهاية للمؤتمر.. وقد تولى تلك المهمة الشاقة نخبة من الباحثين بمركز معلومات مجلس الوزراء (شرفت بالتدريس لبعضهم فى برامج الدراسات العليا).. وكان عليهم دراسة وتفريغ مئات المداخلات والكلمات فى سويعات قليلة، فضلا عن اضطلاعهم بمهام إدارة المحتوى العلمى للجلسات، وكنت أتمنى لو عهد إليهم أيضا بإدارة المحتوى التنظيمى، حيث عاينت بنفسى حالات خلو بعض المقاعد حول مائدة المتحدثين، رغم جلوس أصحابها فى المقاعد الخلفية لعدم معرفتهم بأنهم مدعوون للحديث!
القيمة الحقيقية لمساهمات المتحاورين فى المؤتمر تعظم إذن متى حُملت الثمار إلى مراحل تالية، من الجمع والفرز والتصنيف والتحليل والنشر، ثم إعادة المناقشة فى دوائر أضيق، وبمساهمة فاعلة من صانع القرار، لتحويل ثمار النقاشات إلى منتج حقيقى من السياسات والإجراءات على أرض الواقع. كلمة السر فى نجاح المؤتمرات هى «المتابعة»، حتى لا ينتهى المؤتمر بانتهاء جلساته، ويبدأ المؤتمر التالى من الصفر، ودون استفادة من تراكم الفكر والوعى والخبرات.
• • •
أما معهد التخطيط القومى، فيميزه عن سائر المؤسسات التعليمية فى مصر، قدرته على اجتذاب العناصر العلمية البارزة من مختلف الجامعات، على أسس مبتكرة لاستثمار الخبرات، ودون التقيد بنظم التعيين والانتداب التقليدية. وقد سمح له ذلك بعقد شراكات متميزة مع عقول نابغة فى مجالات شتى، أمكنها المشاركة فى إصدارات وندوات وفاعليات المعهد دون الحاجة إلى التفرغ التام. أما عن نقاط القوة فى الورشة سالفة الإشارة، فقد تمثّلت فى تنوّع المتحدثين، والحرص على الإلمام بالبعد الأكاديمى وخبرات الأسواق وتمثيل مختلف القطاعات المعنية بالقضية.. وكانت القضية محط الاعتبار بعنوان «آلية تبادل الجنيه المصرى مع بعض العملات الوطنية لتجمع بريكس: الواقع والمأمول». لكن التوفيق فى اختيار نخبة مختارة من المتحدثين، لا يعنى بالضرورة أن آليات الاختيار كانت منضبطة بصفة مطلقة.. فالمعهد يمتلك قدرات بشرية وتقنية عالية، تسمح له بإنشاء قاعدة بيانات معتبرة، تصلح لسحب عينة عشوائية للمشاركين فى الفعاليات، بصورة تراعى العديد من الاعتبارات، مثل التنوع والخبرات العملية والعلمية والمقالات أو الأبحاث المنشورة للمتحدثين فى موضوع الفعالية.. كذلك يجب أن يشعر المشاركون بأن آراءهم لم تذهب أدراج الرياح، وإنما تم جمعها وتصنيفها بل وربما نشر ما يصلح منها فى إصدارات المعهد، بغرض طرحها للنقاش والتحليل فى فاعليات وأنشطة أخرى، هدفها تحويل ثمار النقاش إلى سياسات وقرارات.
هنا يجب الإشارة إلى ورش العمل التخصصية التى احتضنها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، والتى جاءت بتكليف رئاسى لتناول عدد من قضايا الساعة الاقتصادية، وفى مقدمتها أمن الطاقة، والسياسة المالية والدين، والسياسة النقدية وقضايا التضخم والبطالة.. وكانت السمة المميزة لتلك الورش أنها تنتهى بتشكيل لجان توجيهية ومجموعات تركيز focus groups لوضع أوراق سياسات جامعة ومنقحة للأفكار المطروحة على موائد النقاش، للعرض على السيد رئيس مجلس الوزراء..
كنت أتمنى اجتماع تلك المجموعات بالسيد رئيس الوزراء والوزراء المعنيين كما كان مخططا، لمناقشة مزيد من التفاصيل حول فرص وآليات استيلاد الأفكار لصناعة القرار.. لكن الاجتماعات لم تتم.. كذلك ينتقص من الجهد الرائع فى عرض الأفكار من قبل قيادات المركز، وجهود الإعداد والتجهيز والمتابعة، حرص الباحثين على جمع مختلف الآراء فى إناء واحد، على شدة تباينها وتنافرها أحيانا، الأمر الذى قد يتسبب فى التباس لدى صانع القرار.. وعلى الرغم من حرص القائمين على ورش العمل ومجموعات التركيز على تدوير المسودّات المختلفة، لتنقيحها وبلورة شكل متجانس للمنتج الفكرى النهائى، فإن الغالب على تلك المنهجية أن المجموعة التوجيهية التى يعهد إليها بالتلخيص والعرض، غالبا ما تنحاز إلى مساهماتها وما يتفق معها. كما أن المواءمة المستمرة بين آراء متباينة، تخرج ــ إن وفّقت ــ بفكرة أولية أو سطحية مجددا، فينسحب عليها وصف الرئيس لمخرجات المؤتمر الاقتصادى من جديد!
فى تقديرى إن ورش العمل التى استضافها مركز معلومات مجلس الوزراء كانت خطوة مهمة لمتابعة مخرجات المؤتمر الاقتصادى، وسابقة ممتازة فى هذا السياق، الذى اعتدنا أن نرى فيه المؤتمر ينزوى بمجرد انتهاء فعالياته. ولكن تلك المحاولة الجادة للخروج من الدائرة المفرغة للمؤتمرات غير المكتملة، يمكن أن تكتمل لو تهيأ للمركز (ربما عبر قانونه الجديد الناظم له) إصدار أوراق سياسات شديدة الدقة والتفصيل. وإذا التزم الوزراء، عبر تكليف من القيادة السياسية، بالرد التفصيلى على تلك الأوراق، إما بتطبيق ما فيها بالاستعانة بواضعيها من الخبراء، أو بتبرير عدم الامتثال، مع تحكيم المبررات من قبل لجنة استشارية تابعة للسيد الرئيس نفسه.
• • •
زاحم تلك المحاولات الحوارية فى قضايا الملف الاقتصادى، حوار وطنى موسّع، تميز بالدقة والكفاءة التنظيمية، بقيادة جادة للعزيز الدكتور ضياء رشوان المنسق العام للحوار الوطنى.. وبرئاسة مخلصة للأمانة الفنية، اعتدنا عليها من العزيز المستشار محمود فوزى صاحب الخبرات الكبيرة فى إدارة حوار مجتمعى حول تعديلات الدستور الأخيرة عام ٢٠١٩ وصاحب السجل القضائى والمهنى المشرف فى تولى الأمانات العامة للمؤسسات الحيوية.. لكن القضايا الاقتصادية يجب ــ فى رأيى ــ أن تدار فى مجالس نخبوية متخصصة، وأن يقتصر دور الرأى الشعبى على الخطوط العريضة لفلسفة الدولة الاقتصادية. ولما كان الدستور غير مطروح للحوار، فإن التوجه الاقتصادى للدولة لا يرجى مناقشته؛ وعليه فإن الحرص على تمثيل مختلف الأحزاب وكثير من النواب بشكل مكثّف فى الحوار الوطنى لا أحسبه يثمر كثيرا، ناهيك عن تغليب تلك المساهمات على ما هو متاح من نسبة تمثيل للخبراء والمختصين وزمن الحديث المتاح لهم. منصة إدارة الحوار، غير المقيدة بالدقائق الأربع المتاحة للمتحدثين، تغص بالنواب والحزبيين فى هيكل الأمانات العامة والفرعية، وتسمح لهم بالسيطرة التامة على ترتيب وتوزيع الكلمات، بما لمست فيه محاباة ظاهرة لزملائهم من الحزبيين والنواب.. كذلك ورغم سعادتى بالالتزام الملحوظ بزمن الكلمة للمشاركين فى اللجان التى دعيت لنقاشاتها، فإن تلك الدقائق الأربع تسمح بالكاد بطرح أسئلة لا حلول وسياسات وأفكار.. كما تسمح ببسط عناوين رئيسة سطحية للموضوعات، ولا يغنى عن ذلك دعوة أمناء اللجان للمشاركين بتقديم أوراقهم البحثية للأمانة العامة، حيث إن ذلك يلقى بالثقل الأكبر لمخرجات الحوار على آليات وخبرات القائمين على تلك اللجان، وكلها أمور تتم خلف أبواب مغلقة بعكس الحوار الشفاف والمذاع على الهواء.. وعليه فإن المنتج الاقتصادى للحوار سيظل محدودا للغاية، بينما المنتج الفكرى المكتوب يمكن أن يجد طريقه إلى النور عبر منظومة أخرى أكثر كفاءة وتخصصا، كما سيلى طرحه.
وعليه، أقترح تحقيق التكامل بين الجهود المشرذمة بين حاضنات عدة للنقاش والجدل الاقتصادى، بما يضمن الاستفادة من الخبرات العلمية للمؤسسات التعليمية كمعهد التخطيط وكلية الاقتصاد بجامعة القاهرة، ومن الجهود التنظيمية التى تم استثمارها بالفعل فى الإعداد للحوار الوطنى ونظم عمله وإدارته، من أجل إعادة إحياء فكرة المجالس القومية المتخصصة، التى تعمل على مدى العام، لتصدر منتجا فكريا رصينا، يصلح لاستدامة التنمية والتطوير فى البلاد.. كما يتم الاستفادة من مركز المعلومات بما متاح لديه من إدارة حكيمة، وباحثين نجباء، وإمكانات تقنية وبحثية ومادية مناسبة، ليعهد إليه بإدارة المحتوى الناتج عن تلك المجالس، وليكن اسمها «مجالس الحوار الوطنى المتخصصة».. وما يصلح فى الاقتصاد يمكن أن ينسحب على مجالات أخرى سياسية واجتماعية وتعليمية... ولكن مع مراعاة طبيعة وخصوصية كل من تلك المجالات، بما ينعكس على آليات وضوابط التنظيم والعضوية.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات