نشرت جريدة الخليج الإماراتية مقالا للكاتبة شيماء المرزوقى، تؤكد فيه أن لحاسة الشم قدرة فريدة تفوق باقى الحواس على استدعاء الذكريات وتحفيز المشاعر بعمق، مما يجعل الروائح وسيلة فعالة فى التأثير على الحالة النفسية والسلوك، بل وحتى فى المعالجة النفسية.. نعرض من المقال ما يلى:
هل سبق أن مررت بمكان معين، أو فتحت عبوة عطر قديم، وفجأة وجدت نفسك مستغرقا فى ذكريات قديمة لم تفكر فيها منذ سنوات؟ ربما عادت إليك لحظة من طفولتك، أو ذكرى عابرة من يوم دراسى، أو حتى ملامح بيت جدتك، فقط لأنك شممت رائحة مألوفة. هذه الظاهرة ليست خيالا أدبيا، بل حقيقة علمية تؤكد أن لحاسة الشم علاقة وثيقة بالذاكرة والعاطفة، تتجاوز فى تأثيرها الحواس الأخرى.
فى دراسة نشرت بمجلة Chemical Senses، وهى مجلة علمية متخصصة بفهم الأسس البيولوجية والنفسية لحواس التذوق والشم، تمّ إجراء تجربة على مجموعة من المشاركين لاستكشاف العلاقة بين الروائح والذاكرة العاطفية. طُلب من المشاركين تذكر أحداث من حياتهم بعد تعرضهم لروائح محددة، وتمّت مقارنة هذه النتائج بأشخاص طلب منهم التذكر بعد مشاهدة صور أو سماع كلمات فقط. وجدت الدراسة أن الذكريات التى استحضرت عبر الروائح، كانت أكثر وضوحا من حيث التفاصيل، وأكثر كثافة من الناحية العاطفية.
الروائح لا تعيد الذكريات فحسب، بل تعدل المزاج والسلوك أيضا. فى تجارب أجريت فى بيئات عمل مختلفة، وجد أن الموظفين الذين عملوا فى أماكن تفوح فيها روائح منعشة مثل اللافندر أو الليمون، كانوا أكثر هدوءا وأقل عرضة للتوتر، مقارنة ببيئات عديمة الرائحة. وفى متاجر البيع بالتجزئة، ثبت أن الروائح العطرية الهادئة تزيد من مدة بقاء الزبائن، وتؤثر فى قراراتهم الشرائية.
لكن التأثير ليس دائما إيجابيا، فبعض الروائح قد تثير مشاعر قلق أو حزن إذا ارتبطت بتجربة مؤلمة فى الماضى. وهذا ما يجعل الروائح أداة بالغة الحساسية فى تحفيز المشاعر، لدرجة أن بعض المعالجين النفسيين يستخدمون الروائح كجزء من علاج حالات اضطراب ما بعد الصدمة، لمساعدة المرضى فى إعادة معالجة مشاعر قديمة ضمن بيئة هادئة.. فى حياتنا اليومية، قد نغفل عن قوة الرائحة، ونظن أنها مجرد جانب ثانوى من الحواس، لكن حين ندرك أن للعطر أو الرائحة قدرة على استدعاء مشاعرنا القديمة، وتشكيل حالتنا النفسية، سنبدأ فى التعامل معها بطريقة أكثر وعيا، فاختيار رائحة مألوفة قبل لقاء مهم، أو استخدام عطر معين أثناء الدراسة، يمكن أن يساعدانا فى ترسيخ حالة ذهنية معينة أو تسهيل استحضارها لاحقا.
ربما لا نملك التحكم الكامل فيما نشمّ أو متى نتعرض له، لكننا نملك حرية اختيار كيف نربط هذه الروائح بتجاربنا. ولعل أجمل ما فى الأمر أن الرائحة، رغم بساطتها، يمكن أن تكون جسراً خفياً بين لحظات الحاضر وذكريات الماضى، تلامس شيئا داخلنا لا تستطيع الكلمات وصفه، وتوقظ فينا مشاعر كنا نظنها قد انطفأت منذ زمن.