تتوالى المقالات واللقاءات التليفزيونية التى تتناول الشأن الاقتصادى المصرى. تتنوّع الرؤى والتحليلات بصورة مربكة للشخص العادى، الذى عادة ما ينتظر الحل فى كلمات معدودة. يرتبك أيضًا المتابعون، غير ذوى الاختصاص، كلما وجدوا اختلافًا كبيرًا بين آراء الاقتصاديين، أو ضيوف البرامج الفضائية على اختلاف تصنيفاتهم. مقدّم البرنامج يسهم بدوره فى صناعة تلك الحالة، عندما يحرص على إبراز الاختلاف باعتباره دليلًا على عدم وجود مسار متفق عليه للخروج من الأزمات. هو حق أريد به باطل، لأنه ليس ثمة طريق «واحد» للخروج من الأزمات، بل هناك «عدة» طرق ومسارات، لكل منها تكلفة وتبعات وخارطة طريق.
انحياز أحد المحللين إلى مسار دون الآخر، لا ينبغى أن يشكّل عقيدة راسخة لا تقبل التبديل. بل هو قناعة تؤيدها المشاهدات التاريخية، والكيفية التى ترجم بها صاحبنا تلك المشاهدات. أما إذا اختُتِم اللقاء بسؤال المضيف لضيوفه عن حل الأزمة فى كلمات قليلة وفى أقل من دقيقة! فليس هناك إجابة جادة إلا الكلمات العامة المسطّحة، التى يصفها البعض بالسذاجة، لكن ماذا نتوقع خلاف ذلك؟! لو أن سيدنا يوسف هو الذى وجّه له هذا السؤال لكانت الإجابة فى كلمات قليلة، كما تخبرنا بذلك السورة الكريمة فى القرآن. لكنه نبى يأتيه الوحى من السماء، كما أن الأزمة التى تمر بها مصر اليوم ربما تكون أكثر تعقيدا من تلك التى صادفت يوسف الصديق، عليه السلام.
فأزمة مصر التى كشفت عنها رؤيا الملك، تمثّلت فى مخاطر الجفاف، وما قد ينشأ عنها من مجاعات. تلك التى لا يمكن لمصر القديمة إدارتها إلا باستراتيجية «إدارة الموارد الحرجة» Critical Resource Management، حيث كان أسلوب الزراعة والحصاد والتخزين، والإدارة المثلى للموارد الغذائية والمائية الشحيحة.. سبيلًا لتخطى السنوات العجاف. نلاحظ هنا أن امتلاك مصر القديمة للذهب والثروات المادية المختلفة لم يكن مناسبا لإدارة الأزمة، حيث كانت مصر، المشار إليها فى سورة يوسف بـ«الأرض»، أكبر من أن تحل أزمتها بالاعتماد على الاستيراد من الخارج رغم امتلاكها للأموال، أو أن تستغنى عن الاكتفاء الذاتى بنوع من التكامل الاقليمى أو التحوّط بالتعاقدات الخارجية المستقبلية.. أما اليوم فلا يشكّل تغير المناخ، وتراجع نصيب الفرد من الموارد المائية والغذائية، سوى جانب واحد فقط من الأزمة الاقتصادية التى تمر بها مصر.
الدولة تعانى من ارتفاع مستويات الفقر والديون والاستيراد، وتضخم الأسعار وتراجع الانتاجية وتآكل المدخرات والثروات، وعجز مصادر الطاقة عن الوفاء باحتياجات التنمية، وتراجع وعدم استقرار معدلات النمو الاقتصادى.. فضلًا عن شح كبير فى الموارد الطبيعية والموارد البشرية «المؤهّلة» لمواجهة تحديات الاقتصاد العالمى الجديدة.
تلك الأزمات المركّبة، لا يجوز أن نتعامل معها بطريقة الوصفة السحرية، لأن الوصفات سوف تتضمّن بكل تأكيد آثارًا جانبية متداخلة، يمكن أن تؤدى إلى شلل الاقتصاد لو لم يحسن إدارتها بشكل جيد. لذا فليس أقل من أن تكون الإجابة عن السؤال المتكرر حول الحل العاجل، منصبّة على الآلية المستقرة التى من شأنها إنتاج تلك الحلول، وفرزها، واختبارها والتأكد من فاعليتها.
• • •
الأمر إذن يشبه المشهد الذى تناولته، مع قراء هذه المساحة، لدى الحديث عن مخرجات المؤتمر الاقتصادى والحوار الوطنى. كان انشغالى الأكبر منصبًّا على آلية إدارة الحوار وفرز مخرجاته وتحليلها، بل على النسيج الذى التأم حول مائدة الحوار وخلفيات المشاركين. اليوم ونحن نتساءل عن أهم السياسات والقرارات التى يجب أن تأخذها الدولة فى أسرع وقت ممكن، بغية الخروج من الأزمات التى سمحت لنا صفقة رأس الحكمة بالتعامل معها بقدر أقل من التوتر والارتباك.. علينا أن نضع فى مقدمة أولوياتنا خطة الإصلاح المؤسسى والهيكلى، التى يمكن أن تخرج مصر من الأزمة فى الأجل الطويل. وإذا كنا قد أشرنا فى المقال قبل الماضى، إلى قدرة برامج صندوق النقد الدولى على حل أزمات محدودة فى الأجل القصير، ومنها أزمة انهيار القوة الشرائية للعملة، وتقلبات سعر الصرف.. فقد أوضحنا تفشّى الآثار السلبية لتلك البرامج فى الأجل الطويل على أهم متغيرات الاقتصاد الكلى، المتمثّلة فى نمو الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى، والبطالة، والصادرات.. الأمر الذى لا يجوز معه الاتكاء على برنامج صندوق النقد وحده، دون خطة وطنية للتعامل مع أزمات الاقتصاد الحقيقى.
ولتكن بداية الحوكمة الجادة لخطة الصندوق من خلال اللجنة الوطنية التى دعوت إلى تشكيلها من الخبراء المستقلين، بهدف مراقبة مستهدفات وإنجازات البرنامج المتفق عليه مع الصندوق، وتقييم التداعيات، بل والتفاوض مع فريق خبراء الصندوق بشأن ترشيد المشروطية. تلك اللجنة التى علمت من خبيرة فى الصندوق أن لها تطبيقًا عمليًا ناجحًا فى «سيريلانكا»، إذ تشكّلت تحت منظمة غير حكومية، لكنها تمتّعت بصلاحيات واسعة للنفاذ إلى المعلومات والبيانات المتعلّقة بالأداء الحكومى دون عقبات.
أما المسار الموازى، والذى يجب أن ينطلق اليوم وليس غدًا، للتعامل مع الأزمة الاقتصادية فى الأجلين المتوسط والطويل، فيتطلب إنشاء مجلس أعلى للسياسات الاقتصادية، يقوم على وضع خارطة طريق ملزمة للإصلاح الاقتصادى المؤسسى. وتتطرق الإصلاحات المؤسسية فى جانبها الاقتصادى، إلى آليات ومحددات صناعة واتخاذ القرار فى الملفات الاقتصادية المختلفة، بما فى ذلك المؤسسات المعنية بصناعة التشريعات، والتخطيط الاقتصادى والمالى والطاقوى، وإتاحة المعلومات، والمؤسسات المالية المصرفية وغير المصرفية، كسوق المال والتأمين والتمويل العقارى.. فضلًا عن المؤسسات المسئولة عن الجباية والدعم.. ولا يمكن أن نتصوّر نجاحا لأى برنامج اقتصادى دون إصلاح مؤسسى جاد.
• • •
يزعم البعض أن الإصلاح المؤسسى يجب أن يبدأ بالإصلاح السياسى، لكن مقالًا حديثًا لـ«جين زاو» وآخرين، صدر عن مجلة الاستدامة فى أبريل عام 2021، تضمّن دراسة كمية بالتطبيق على 122 دولة نامية، ومنها مصر، خلال الفترة من عام 1996 إلى عام 2019 أثبت أن الإصلاح المؤسسى الاقتصادى يؤتى ثمارا اقتصادية أفضل وأسرع من الإصلاح المؤسسى السياسى، وأن الترتيب مهم جدًا فى هذا السياق. لأن الاستثمارات الأجنبية سوف تجتذبها الإصلاحات المؤسسية الاقتصادية بشكل مباشر وسريع، بينما عملية الإصلاح السياسى ربما انطوت على درجة من عدم اليقين فى مراحلها الأولى، ينتج عنها تراجع المستثمر عن خوض تجربة الاستثمار حتى تستقر الأوضاع.
هذا يؤكد ما سبق أن ذهبنا إليه، فى غير مداخلة، من أن الإصلاح المؤسسى السياسى، أهميته فى الأجل الطويل، غير أنه يفضّل أن يأتى فى أعقاب إصلاح مؤسسى ذى طبيعة اقتصادية، وتسمح الحريات الاقتصادية، التى منها حرية التملّك، والعمل، والاستثمار، فى صياغة مناخ اجتماعى يقبل التعدد والانفتاح، ويسمح بالانتقال التدريجى إلى مزيد من الحريات السياسية، التى تصونها وتستدعيها حالة من الوفرة النسبية، عوضًا عن الشح والندرة الشديدة فى الموارد والدخول.
الإصلاح المؤسسى الاقتصادى يخلق بيئة صحية مستدامة جاذبة للتدفقات الاستثمارية والسياحية، من خلال وضع الضمانات التى تحول دون تفشّى الفساد، والانحراف بالسلطات، وانتشار تعيينات المصالح، وتعارض أهداف الرقابة المؤسسية مع الإصلاح المؤسسى.. تلك الضمانات سوف تحكمها التشريعات ويضبطها الأداء المؤسسى، الذى يجب أن يخضع للتقييم المستمر خاصة فى مراحل انتقاله الأولى. وربما تطرّق برنامج الصندوق الأخير إلى هذا النوع من الإصلاحات، من خلال مطالبته بزيادة درجات الشفافية فى العطاءات والمشتريات الحكومية، والطروحات العامة للأسهم، والتزامات الحكومة قبل الصندوق، ووحدة الموازنة العامة، واستقلالية الجهاز المصرفى والبنك المركزى.. لكنه بكل تأكيد لم يدخل فى التفاصيل، ولا ينبغى له.
أما الإصلاح الهيكلى، فيتطرق إلى زيادة الدور الذى يجب أن يلعبه القطاع الخاص فى الاقتصاد. وهذا يتطلب تخارج الدولة من المشروعات الخاصة، لإفساح المجال أمام القطاع الخاص، كى يعمل أدوات المنافسة واستهداف الربح لتحسين الكفاءة والفاعلية للأسواق. وهذا الأمر تناولناه كثيرًا منذ صدور وثيقة سياسة ملكية الدولة، ومن قبلها بسنوات. وربما كان صدور تشريع جديد حاكم لملكية الدولة فى مختلف مشروعاتها هو وسيلة لتحسين أداء تلك الوثيقة، وترشيد وحوكمة أى ملكية جديدة للدولة، لكن هذا يحتاج إلى مقالات أخرى.
كاتب ومحلل اقتصادى