السؤال الموجود فى عنوان المقال «ثورة أم مؤامرة؟» يُطرح عقب كل ثورة قامت فى تاريخ البشرية، لأن الثورة هى انْتِفاضَةٌ وغضب من الشعوب على وضع قائم، رأت فيه الشعوب والثوار أوضاعا مليئة بالفساد والظلم والانحراف، وخروج على التوافق الذى من المفترض أن يكون بين الشعب وبين حُكامه، هذا التوافق يكون مكتوبا فى صيغة تعاقد يُسمى فى عصرنا الحاضر بـ«الدستور».
فما من ثورة قامت ضد نظام إلا وعارضها أتباع هذا النظام، وأعوانهم من المستفيدين من الفساد، ومن التمييز السلبى الذى يعكس عدم العدالة بين الناس، فالهدف الأساسى لأى ثورة هو تغيير فى الأوضاع السياسية والاجتماعية يقوم به الشعب للقضاء على الفساد، وتحقيق العدالة، واحترام الدستور والقوانين.
ويُطلق على أصحاب المصالح والنفوذ الذين قامت عليهم الثورة بأصحاب «الثورة المضادة»، فدورهم هو التشهير بالثوار، وتشويه مطالب الثورة، وادعائهم بأنه «لم يكن فى الإمكان أبدع مما كان»!، وتمثل هذه العبارة فلسفة الفيلسوف ليبنتز الذى يؤمن بأن الناس ترى فى الشر شرا، بينما هذا الشر فيه كل الخير الذى لا يستوعبه الناس!
ولعل تناوب الأدوار بين جمهوريات وملكيات وإمبراطوريات، فى أعقاب الثورة الفرنسية (1789) ــ الثورة الأم فى العصر الحديث ــ أكبر دليل على صراع الثورات، بين ثورة حقيقية وأخرى مضادة، فقد عادت ملكية آل بوربون مرتين: الأولى مع لويس الثامن عشر (أخو لويس السادس عشر الذى أُعدم مع زوجته مارى أنطوانيت) وشارل العاشر؛ والثانية، مع وصول لويس فيليب الأول (من أقارب لويس السادس عشر) إلى العرش.
وكذلك الإمبراطوريات، استمرت اثنين وعشرين عاما، وجاءت مرتين: الأولى مع نابليون بونابرت من 1804ــ 1814، والثانية مع نابليون الثالث (ابن أخو نابليون بونابرت) من 1852 ــ 1870، ولم يستقر النظام الجمهورى إلا مع الجمهورية الثالثة (1870)، ومنذ ذلك التاريخ استقرت فرنسا على النظام الجمهورى، فكانت الجمهورية الرابعة (1946)، وأخيرا الجمهورية الخامسة (1958) بقيادة شارل ديجول، والمستمرة حتى اليوم.
***
تقودنا هذه المقدمة عن الثورة، والثورة المضادة، وأسباب كل منهما، إلى موقف السفير الموقر أحمد أبو الغيط، أمين عام الجامعة العربية عندما اعترض على مصطلح «الربيع العربى» (فى اليوم الثانى لمنتدى شباب العالم 15 /12 /2019) قائلا: «موت 500 ألف سورى، وطرد 4,5 مليون سورى من بلادهم، وهدم دولة مثل ليبيا، والتأثيرات الخطيرة التى شهدتها مدن عراقية وليبية وسورية، وعودة الكوليرا إلى اليمن، لا يمكن أن يُسمى بالربيع»، هذا الوصف فى حاجة لدراسة، ونحن لن نتدخل فى أمور سياسية، لأن هذا ليس عملنا، وإنما سنتناول المقولة بالتحليل اللغوى، ذلك باعتبارى أستاذا للغويات وتحليل الخطاب، فيكون درسا من الواقع لطلابى الأعزاء، ومع حفظ كل الاحترام والتقدير للسيد الأمين العام.
تكشف تصريحات الأمين العام عن ظاهرتين لغويتين: الأولى «المفارقة» (paradoxe) فى المواقف، والثانية «القياس المُزَيَّف» فى الاستدلال (fauxــsyllogisme) أو بالإنجليزية (false syllogism).
وتأتى المفارقة من طرفين: الأولى من بعض الحضور الذين قابلوا التصريحات بالتأييد والتصفيق، والمفارقة هنا لأن هؤلاء المؤيدين ما كانت ستأتيهم الفرصة أبدا أن يكونوا فى أماكنهم، ومناصبهم التى يحتلونها الآن لولا ثورة 25 يناير! وذلك لأن نظام الرئيس الأسبق مبارك كان قد تيَبس، وأغلق على نفسه لتحقيق مشروع التوريث.
ونجد المفارقة الثانية من طرف السيد الأمين العام نفسه، فنحن نتفهم تصريحاته، ولا نجد فيها غرابة، لأن سيادته كان وزيرا للخارجية لنحو سبع سنوات للنظام الذى قامت عليه الثورة، ولكن المفارقة فى أنه لم يبد أى اعتراض على الموجة الثانية من ثورات «الربيع العربى» التى اندلعت أخيرا فى الجزائر والسودان ولبنان!، ولم نسمع منه إدانة لها، فهل المنصب السابق الذى كان يحتله كوزير للخارجية فى عهد مبارك، وتغَيُره بالمنصب الحالى كأمين عام للجامعة العربية هما السبب فى التباين والمفارقة فى المواقف؟!
وأما عن الظاهرة الثانية: «القياس المُزَيَّف» فى الاستدلال، فقد ذكر سيادته النتائج السلبية لثورات الربيع العربى، واعتبرها ربيع خراب ودمار، وتفتيت للدول، وتشريد للشعوب التى قامت فيها الثورات، ربما تدل ظواهر الأحداث التى نراها اليوم على مصداقية قول السيد الأمين العام، ولكن سيادته قد عكس منطق الاستنتاج الذى يقوم على ضرورة ذكر الأسباب قبل سرد النتائج!
فضلا عن أننا لا نعرف كيف اعتبر سيادته انهيار العراق ضمن أحداث الربيع العربى، فقد سقطت بغداد فى 2003، قبل أول ثورة للربيع العربى بثمانى سنوات!، فالعكس هو الصحيح، لو أن الشعب العراقى قام بثورة ضد صدام احتجاجا على حروبه ضد الآخرين، دون مبرر، لما احتُلَت العراق، ولما مر الشعب العراقى بهذه الأهوال، ولكن ما حدث فيها من خراب مستمر حتى الآن هو نتيجة حاكم ديكتاتورى أدخل بلاده فى حروب دون طائل، ولأول مرة فى التاريخ، يُهدى قائد طائراته الحربية للعدو فى إيران!، وعندما أنهكته الحروب ماليا، اضطر لاحتلال دولة الكويت الشقيقة العربية، لنهب ثرواتها البترولية، وليُعوِض ما بدده من ثروات هائلة لوطنه!
***
إن الخراب العربى جاء مع غزو صدام للكويت (1990)، ونتيجته عودة الاستعمار؛ ومن قبل مع تفجير طائرة لوكيربى (1988)، ونتيجته تسليم القذافى اثنين من مواطنيه لهولندا، ودفع تعويضات هائلة للضحايا، وكذلك تفجير ملهى ليلى ببرلين (1986)، ونتيجته قصف الولايات المتحدة لليبيا؛ فقائمة جرائم الحكام الديكتاتورين مع شعوبهم، ومع الدول الأخرى طويلة، ويكفى أن نعترف بأن حصيلة الحكم فى أكثر من ثلاثين عاما فى دول الربيع العربى هى «صفر»، بينما هناك دول أصبحت نمورا فى أقل من عشرة سنوات، هذه هى الحقيقة الأولى.
أما الحقيقة الثانية، فإن الثورات العربية قامت نتيجة لعدة أسباب لم يتناولها السيد الأمين العام، لا من قريب ولا من بعيد، وأولها، مشاريع التوريث التى بدأت فى عائلة الأسد فى سوريا، ثم أخذت تنتشر فى ليبيا ومصر واليمن، ضاربين بعرض الحائط مبادئ النظام الجمهورى، ومخالفين للدساتير، ولم يفلت من ظاهرة التوريث سوى الرؤساء الذين لم ينجبوا ذكورا، كما فى تونس والسودان والجزائر!
وثالثا، الفساد الذى عَم البلاد، فقد تم نهب ثروات الشعوب، وحُولَت إلى حسابات خاصة فى بنوك سويسرا وغيرها، أو وُضعت فى خزائن خاصة فى قصورهم، وبِيعَت ممتلكات الشعوب بأرخص الأثمان، كالقطاع العام فى مصر، وكذلك أراضيها ومصانعها...، فظهرت طبقات طفيلية، أنتجت فوارق اجتماعية هائلة، فضلا عن تزوير فى الانتخابات، وتنصيب المحاسيب فى الوظائف الهامة، فاعتمدوا على أهل الثقة، ونَحوا أهل الخبرة!
ورابعا، فى الدول التى فيها دساتير ومؤسسات، كما هو الحال فى مصر، تم العبث فى دستورها، بتفصيل المادة 76 لتنطبق على الوريث، وأما الدول التى ليس فيها أى مقومات للدولة مثل ليبيا، فكان حاكمها دكتاتورا مطلقا، وكانت مثالا للدولة الفاشلة والفاشية، فعندما انتفض الشعب بعد أربعين سنة من حكم استبدادى، لم يجد الشعب مؤسسة واحدة تحميه، لا جيش ولا شرطة ولا مجلس نواب، وإنما وجدوا مخازن أسلحة استولى عليها الإرهابيون، فظهرت ميليشيات داعشية متناحرة! وفى الدول الأخرى، كانت فيها جيوش عائلية وعشائرية، كما فى اليمن وسوريا والعراق تحمى الحاكم فقط!
وخامسا، ظاهرة عدم تداول السلطة، تحولت الجمهوريات إلى «جمهوملكيات»، فقد وصلت فترات حكم بعض الرؤساء إلى الأربعين عاما، وكلهم أنهكتهم الكهولة والشيخوخة، كالرئيس الجزائرى بوتفليقة الذى كان يحكم من غرفة الإنعاش، والرئيس مبارك كان يحكم، فى فترة مرضه، من المستشفى بألمانيا، وفى فترة نقاهته، من منتجع شرم الشيخ...إلخ!
إن هذا «القياس المُزَيَّف»، يُذكرنا بمسرحية «الخرتيت» (Le Rhinocéros)، للكاتب الفرنسى أيونسكو Ionesco، رائد تيار الأدب العبثى، الذى يحكى فيها ظاهرة «الخرتتة»، أى تحول الإنسان إلى خرتيت، فقد تحول أهل مدينة بأكملها إلى خراتيت، إلا رجل واحد فقط! والمؤلف يشير فى مسرحيته إلى الشعوب التى تخضع لحكامها الديكتاتوريين أو للأيديولوجيات المصكوكة (كالشيوعية، والنازية، والجماعات الدينية... إلخ)، دون تفكير أو تدبير، فيعتبرهم قطيعا كالخراتيت، وينتقد أيضا أهل النخبة الذين يمثلهم فى المسرحية عالم بالمنطق، يُعلِم رجلا مُسنا، فيُشوه له القياس المنطقى «syllogisme» للمعادلة الشهيرة لسقراط: «الإنسان ميت، وبما أننى إنسان، إذن أنا ميت»، ويحوله إلى قياس مُزَيَّف: «كل القطط موتى، وسقراط ميت، إذن سقراط قطة»!
وهكذا كل من اعتبر الربيع العربى خريفا ودمارا ومؤامرات على الدول والشعوب، يتبع القياس المُزَيَّف: «الربيع العربى مؤامرات، وبما أن 25 يناير ربيعا عربيا، إذن 25 يناير مؤامرة»!
ولكن للدستور الحالى، الذى وافقت عليه الغالبية العظمى من الشعب، رأى آخر، فهو يعتبر 25 يناير وتوءمتها 30 يونيو (التى خلصتنا من قبضة حكم الإخوان، الوجه الآخر لنظام مبارك) ثورة واحدة، كلتاهما مكملة للأخرى، فحماهما، ودعمهما، وعظم لهما الجيش المصرى الوطنى العظيم، وجاء وصفهما فى الدستور بالتالى: «ثورة 25 يناير ــ 30 يونية، فريدة بين الثورات الكبرى فى تاريخ الإنسانية (...)، (جاءت) بحماية جيش الشعب للإرادة الشعبية، وبمباركة الأزهر الشريف، والكنيسة الوطنية لها، وهى أيضا فريدة بسلميتها وبطموحها لتحقق الحرية والعدالة الاجتماعية معا».
كما أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، اعترافا وعرفانا بثورة 25 يناير، أصدر، فى 2012، مرسوما بقانون بإنشأ ميدالية عسكرية مصرية تحمل اسمها، تُمنح للأبطال، وذلك تخليدا لها.
عاشت مصر حرة أبية، وعاش جيشها العظيم، وعاشت الشرطة المصرية، وتحية لها ولأبنائها الأبطال فى عيدها القومى، وتحية لثورة 25 يناير وتوءمتها 30 يونيو.
أستاذ جامعى