ليس جديدا وليس مثيرا بالنسبة لدارسى العلاقات الدولية التدخل الخارجى، عربيا كان أم أجنبيا، فى شئون اليمن، فالتدخل فى شئون الدول العربية من جانب دول عربية أخرى سلوك عادى ومتكرر، فضلا عن أن التدخل، كممارسة دولية، صار ظاهرة عادية من ظواهر المرحلة الراهنة فى تطور النظام الدولى والعلاقات الدولية، تمارسها الدول المتوسطة والصغيرة، بل والصغيرة جدا، ولم تعد حكرا على الدول الكبرى أو برخصة منها. أعود إلى هذه الظاهرة ومدى اتساعها فى الجزء الأخير من هذا المقال.
الجديد حقيقة والمثير ويستحق المتابعة الدقيقة من جانب المتخصصين هو التغير، ولا أقول، هكذا مبكرا، التحول، فى السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية. درجنا منذ بداية متابعتنا للسلوك السياسى السعودى فى إدارة مصالح المملكة الإقليمية والدولية على أساليب تكاد السعودية تنفرد بها، أو تمارسها بامتياز، لم يكن بينها على كل حال التدخل العسكرى المباشر. استخدمت بكفاءة قواها الناعمة التى يصعب أن نجد من ينافسها فيها، وهى مؤسسات وأفكار وتيارات المجتمع الدينى الإسلامى. كذلك لم تقصر فى توظيف مواردها المالية لتشغيل شبكة من قنوات المنح والعطايا والهدايا والمعونات لدول ومسئولين وإعلاميين ومفكرين كبار فى العديد من أقطار العالم العربى والخارجى. عرف أيضا عن المملكة الوزن الدينى المؤثر بقوة حتى بدون تفعيله من خلال أدوات القوة الناعمة.
من ناحية أخرى، نجحت المملكة منذ مرحلة النشأة الحديثة فى إلصاق سمعة الواقعية بسياستها الخارجية، بالرغم من الإطار العقائدى الذى يضبط حركة جميع مؤسساتها ونخبها الإدارية والدبلوماسية والأمنية. كان هناك أيضا، ودائما، هذا الغلاف من الغموض والتريث فى اتخاذ القرار، وبفضله اكتست الدبلوماسية السعودية برداء الحكمة والخبرة.
***
لم يُعرف كثير عن المملكة تدخلها المباشر والصريح فى شئون الدول والجماعات الأخرى. ولكن عندما كانت تتدخل استخدمت أشكالا وأساليب وأدوات أقل صراحة ووضوحا. تدخلت مثلا فى اليمن لترد على تدخل مصر فى أوائل عقد الستينيات. وتدخلت فى سوريا، قبل اليمن وأيام الوحدة لتحجيم الدور المصرى فى منطقة المشرق. وتدخلت بأساليب متعددة فى لبنان مثل غيرها من الدول وبخاصة عندما انهكت الأطراف وصارت أكثر استعدادا لوقف الحرب الأهلية والتوصل إلى اتفاق مصالحة شاملة بين أطرافها. وتدخلت بحذر فى العراق عندما بات واضحا ان توازن القوة الدقيق والحساس فى الخليج هددته ثورة دينية فى إيران ثم عادت تهدده القوة العسكرية العراقية المنتصرة. وتدخلت فى الوقت نفسه فى أفغانستان بوسائل وأساليب شتى، ليس بينها التدخل العسكرى المباشر، للعمل مع الولايات المتحدة على طرد السوفييت من أفغانستان، وكان من بين هذه الأساليب أو لعله من أهمها جهودها فى تشجيع دول عربية وإسلامية لتجنيد شباب لحرب جهاد ضد الشيوعيين هناك.
هذه كانت مجرد أمثلة لأعمال تدخل قامت بها دبلوماسية المملكة السعودية، مثلها مثل دبلوماسيات عديد الدول التى دأبت على التدخل فى شئون الدول الأخرى دعما لنفوذها الإقليمى والدولى أو حماية لمصالحها وأمنها القومى، وإن اختلفت المملكة عن كثير من هذه الدول فى أنها لم تستخدم القوة العسكرية للتأثير فى الدول الأخرى إلا نادرا وإن بزيادة ملحوظة فى السنوات الأخيرة. تدخلت عسكريا بصورة ما فى حرب الخليج، وتدخلت عسكريا فى البحرين، وها هى تتدخل عسكريا فى اليمن. ولهذه الزيادة الملحوظة، فى رأيى، أسبابها الكثيرة. أهم هذه الأسباب هى أن النظام الإقليمى العربى الذى ساهمت المملكة فى تأسيسه مع ست دول عربية أخرى تجاوز السبعين من عمره وآن أوان البحث عن فرص لتجديده أو إعادة تعريفه. هناك بالتأكيد قوى إقليمية غير عربية تصطف مطالبة بحقها فى التدخل فى شئون الدول العربية أسوة بعشرات الدول الأوروبية التى تدخلت على امتداد السنين ورغبة فى ممارسة هذه العادة ذائعة الصيت، عادة تدخل دول النظام فى شئون بعضها البعض، ازدادت هذه الرغبة زيادة كبيرة عندما سمحت الدول العربية بالتهاون فى حماية هوية النظام فأسقطت بهذا التهاون أهم حصون الدفاع عن حدود النظام الخارجية.
من هذه الدول الإقليمية دول تزعم أن من حقها أن تكون عضوا فى أى نظام إقليمى جديد ينشأ تحت ضغط توازن جديد للقوى فى المنطقة، أو بأصابع لدول كبرى كالأصابع التى نسجت بداياته خلال الحرب العالمية الأولى. هذه المرحلة مهمة وحيوية، ليس فقط لأن إعادة تعريف نظام تعنى إعادة تقييم القواعد والعقائد والإمكانات التى تسهم فى تعريف النظام وتحديد هويته، ولكن أيضا لأن بصمات التدخل خلال هذه المرحلة مرشحة لتضع علامات ثابتة فى توجهات النظام الجديد، أو على الأقل فى صياغة تعريفه وهويته. هنا يجب أن نتذكر أن دولا كبيرة فى النظام العربى تسببت فى إضعاف دور الهوية فى تعزيز دفاعات حدوده الخارجية عندما سمحت لدول أفريقية لا يتحدث أهلها العربية ولا ينتمون لثقافة العروبة بالانضمام إلى جامعة الدول العربية.
سبب آخر من الأسباب المهمة فى زيادة عمليات التدخل السعودى المباشر وربما العسكرى فى السنوات الأخيرة، هذا الانسحاب الملحوظ للدول الكبرى من مسئولية «التدخل» فى شئون دول الإقليم على عكس ما تعود عليه الإقليم وتوازنات القوة فيه وعلى غير ما اعتادته الدول العربية ودول الجوار على حد سواء. نعرف أنه لدى هذه الدول الأجنبية ما يبرر الانسحاب. نعرف عن خسائرها الكبيرة فى حربى أفغانستان والعراق، ونعرف عن أحوال الأزمة المالية والاقتصادية فى العالم الرأسمالى، وخفض موازنات التسلح والانفاق العسكرى فى كثير من الدول الغربية. عرفنا أيضا أن رسالة الانسحاب كانت تحمل معنى إجبار دول الإقليم على تحمل مسئوليات كان يقوم بها الغرب، وبخاصة مسئولية التدخل المباشر والعسكرى. حملت أيضا معنى أن الدول الكبرى لن تقف ضد عمليات التدخل من جانب دول فى الإقليم فى شئون دول أخرى طالما التزمت القوى المتدخلة القواعد الكبرى التى تحكم التوازن على مستوى القمة الدولية.
***
جدير بالذكر أن ظاهرة التوسع فى التدخل فى شئون الدول الأخرى ليست مقصورة على دول الشرق الأوسط، بل لعلها صارت إحدى أهم ظواهر المرحلة الانتقالية فى النظام الدولى. يرصد توماس كاروثرز وأورين ساميث ــ ما رام فى مقال نشرته لهما مؤسسة كارنيجى هذه الظاهرة. يشير المقال إلى أنه فى افريقيا مثلا لوحظ تباطؤ الغرب فى التدخل، وإن لم يتوقف عن التدخل لتحقيق أهدافه مثل مكافحة الإسلام الراديكالى والعنيف، والوصول إلى مواقع المادة الخام ونشر الديمقراطية. هكذا جرت عمليات محدودة للتدخل الفرنسى الأمريكى فى مالى، وتدخلت أمريكا فى الصومال ضد الشباب، وتدخل الغرب مجتمعا فى مدغشقر وساحل العاج لتثبيت الديمقراطية، وتدخل لتدعم حكومة سيراليون فى أعقاب الحرب الأهلية. الملاحظة الجديرة بالاهتمام هى أن الصين لم تتدخل فى شئون أى دولة أفريقية سوى مرة واحدة فى السودان بسبب تطورات الحرب فى دارفور، وان تركيا تتدخل فى الصومال لأهداف سياسية ما زالت غير واضحة أو مثمرة تماما.
فى الوقت نفسه ارتفع معدل تدخل دول افريقيا فى شئون بعضها البعض. تدخلت بوروندى وراوندا وأوغندا عسكريا وسياسيا فى الكونغو. تريد رواندا تغيير النظام السياسى فى الكونغو، دافعها الشكلى حماية شعب التوتسى من عنف الهوتو والكونغوليين وأيضا ارضاء لضباط وجنود جيشها الذين يشنون الحرب بهدف الإثراء. المعروف أيضا أن رواندا سبق ان ساهمت بتدخلها العسكرى فى اسقاط موبوتو سيسى سيكو فى عام ١٩٩٧.
كذلك تتدخل اثيوبيا وكينيا عسكريا فى الصومال لطرد الإسلاميين من الحكم، وتدخلت نيجيريا لوقف الحرب الأهلية فى ليبيريا وسيراليون. وفى تطور جديد ولافت للانتباه تتدخل الآن تشاد والنيجر فى نيجيريا لمطاردة جماعة بوكوحرام، وتتدخل اثيوبيا وكينيا وأوغندا لوقف الحرب الأهلية فى جنوب السودان، وتتدخل جنوب افريقيا فى ليسوتو لإجراء انتخابات ديمقراطية.
***
فى آسيا، تتطور عمليات تدخل الدول فى شئون دول أخرى فى اتجاهات أكثر كثافة وتنوعا. هناك الصين موجودة فى كل دولة آسيوية ولكنها لا تتدخل لتنفيذ أى تغيير سياسى من أى نوع. بمعنى أو آخر صارت الصين أكبر «المتدخلين» فى دول شرق وجنوب آسيا، هدفها الحرص على عدم إثارة فوضى فى أقاليم حدودية بفعل العدوى من دول مجاورة. لذلك تحظى بورما باهتمام خاص من الصين. ولكنها تحظى فى الوقت نفسه باهتمام وتدخل اليابان وأمريكا ودول شمال أوروبا. أما الهند فتتدخل هى الأخرى بأساليب شتى فى بنجلاديش ونيبال وسيريلانكا، وكلها دول جوار بهدف ضمان الاستقرار، وللصين مصالح أمنية فى نيبال، وهى تعلم جيدا قوة النفوذ الهندى فيها وقوة جماعات من التبت تنشط هناك لصالح استقلال التبت فى الصين.
التدخل الواسع فى أفغانستان سنراه قريبا عندما تغادرها القوات الغربية، بدأنا بالفعل نلاحظ نشاطا باكستانيا فوق العادة، وسعيا هنديا متواصلا للمحافظة على دورها فى تدريب القوات المسلحة الأفغانية. لوحظ أيضا اهتمام متجدد من إيران، وهى الدولة التى لا ترتاح إلى طالبان ولكنها تريد استقرارا سياسيا فى أفغانستان، تبقى الصين لاعبا أساسيا ينتظر نصيبا له فى أفغانستان من مصادر المادة الخام وفى التجارة وفى تأمين طرق المواصلات وفى صد الأفكار الدينية المتطرفة التى تهدد استقرار مقاطعة سنكيانج فى أقصى غرب الصين.
***
هنا فى العالم العربى، كما فى آسيا وأمريكا اللاتينية وافريقيا، تحرص دول متوسطة وصغيرة على ألا يفوتها ممارسة التدخل فى شئون الدول الأخرى، بعد ان صارت الامكانات تسمح، وبعد ان تأكدت من أن القوى الكبرى، وبخاصة أمريكا، بدأت تنسحب من مواقع نفوذها التقليدية. الساحة مفتوحة لكل من يريد أن يتدخل فى شئون غيره بشرطين واضحين أولهما ألا يهدد التدخل مصالح الدول الكبرى فى الدول المعنية، وثانيهما ألا يهدد التدخل العمل الحالى حاليا لإقامة نظام لتوازن القوة فى الإقليم.
***
يبقى أمر مهم لم تلتفت إليه كثيرا كتابات الغربيين المهتمين بالعلاقات السياسية بين دول العالم العربى، وهو ان «التدخل» فى شئون الدول العربية الأخرى طبيعة ثانية لدول النظام الإقليمى العربى. أكاد أجزم بأنه لا توجد دولة عربية لم تتدخل فى شئون دولة عربية أخرى، استثنى ربما جزر القمر على افتراض أنها دولة عربية. أكاد أقطع أيضا بأنه لا توجد دولة عربية لم تشجع الدول الأجنبية، وبخاصة الدول العظمى، على التدخل فى شئونها، رغم كل دواعى وشعارات الاستقلال الوطنى والسيادة الوطنية وحرمة أراضى البلاد، هذه أيضا تكاد تكون طبيعة ثانية للسلوك الخارجى فى النظام الإقليمى العربى، ولعلها من موروثات الخلافة العثمانية فى عقود توعكها وانفراط ولاياتها.
اقتباس
الساحة مفتوحة لكل من يريد أن يتدخل فى شئون غيره بشرطين واضحين أولهما ألا يهدد التدخل مصالح الدول الكبرى فى الدول المعنية، وثانيهما ألا يهدد التدخل العمل الحالى حاليا لإقامة نظام لتوازن القوة فى الإقليم.