ضغوط على السياسة الخارجية المصرية - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 7:03 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ضغوط على السياسة الخارجية المصرية

نشر فى : الخميس 21 نوفمبر 2013 - 7:35 ص | آخر تحديث : الخميس 21 نوفمبر 2013 - 7:35 ص

من إنجازات ثورة يناير أنها «سيست» الجماهير المصرية إلى درجة لم تعرفها من قبل مصر الحديثة. ولكن مثلما حدث فى إنجازات أخرى، تجاوز التسييس الحد المعتدل حين اختفت أو كادت تختفى المسافة بين «التسيس» والغوغائية وخرجت الجماهير بحماستها وانفعالها تتدخل فى كل صغيرة وكبيرة وفيما تفهم وفيما لا تفهم. هكذا تحولت إنجازات بعينها إلى إخفاقات وهكذا تداخلت وتشابكت المواقف فاختلط فى أحيان كثيرة الجد بالهزل والثورة بالفوضى والرأى بالشائعة.

نعرف من تجارب أمم وثورات أخرى أن التسييس إن زاد على حده دفع بالمجتمع إلى الارتباك وخلق حساسية فى العلاقة بين المواطن والحكومة فى الظروف العادية وبين المواطن والناشط السياسى فى ظروف الثورة. فى حالتنا كان واضحا أن هذا التسييس المفرط كان عقبة فى وجه مسيرة الثورة وبخاصة فى وجه عملية إنضاج النخبة الثورية. أظن أنه مسئول أيضا بدرجة أو بأخرى عن ضعف أداء الحكومات المتعاقبة وضعف أداء قادة التيارات السياسية على اختلاف توجهاتها.

مفيد، بل مفيد جدا، أن يعمل الوزير أو المسئول الكبير وهو يعلم أن عيون الناس وعقولهم تراقبه وتتابع عمله. وضار، بل ضار جدا، أن ينشغل المواطن نهارا وليلا بتقييم أداء المسئول أولا بأول ولا يكتفى بإعلان انتقادات بل يسعى لاستصدار أحكام واتخاذ قرارات لا يتحمل مسئوليتها. وفى أحيان كثيرة لا يكتفى المواطن شديد التسييس بحشد الناس وإثارتهم عن طريق إصراره على استخدام حقه فى إسماع صوته من خلال برامج الكلام التليفزيونية ومن على المنصات الخطابية، بل وجدناه يعود إلى بيته ليمارس هواية الجدل السياسى مع أفراد عائلته فإذا بالبيوت تشتعل بنار الخلافات السياسية إضافة لنيران خلافات أخرى اجتماعية واقتصادية عديدة سبقت الثورة أو لحقت بها.

أن تكون الجماهير حكيمة ورشيدة فهذا أمر نتمناه ونعمل لتحقيقه، ولكن أن يتصرف كل مواطن فى أى قضية عامة كما لو كان متخصصا تخصص الوزراء والقضاة والضباط ومطلعا على دفاترهم بقدر إطلاعهم، فهذا هو الأمر غير المفيد وغير المجدى للثورة والدولة والمواطن معا.

<<<

شعرت بارتياح حين تولى مسئولية وزارة الخارجية المصرية وزير شاء أن يطلع الرأى العام على ما ينوى عمله والمشكلات التى تواجهه. تعمد، كما لاحظت، أن يعرض قضايا مصر الخارجية بأسلوب يمكن أن يفهمه المراقب لسياسة الدولة من غير المتخصصين. ارتحت أكثر حين سمعت أن الناس استجابت لهذا الأسلوب فى التعامل مع الرأى العام بردود فعل إيجابية واهتمام معقول. كنت على امتداد سنوات عديدة أدعو المسئولين عن صنع وتنفيذ السياسة الخارجية إلى كسر طوق التكتم الذى فرضه أقطاب الحزب الحاكم مبررين تكتمهم بحجج تقليدية عفا عليها الزمن، مثل حساسية بعض القضايا وخطورة المعلومات المتعلقة بالسياسة الخارجية، والخوف من أن تتسرب أسرار الأمن القومى وخطط الدفاع الاستراتيجى، ووجود عملاء وطوابير خامسة وجواسيس على استعداد لتلقف أى معلومة تخدم الأعداء. إلا أن الحجة التى كثيرا ما كان يلجأ إليها المسئولون لتبرير التعتيم على المعلومات المتعقلة بسياستنا الخارجية فى المنطقة العربية فكانت الزعم بالحرص على حماية العمالة المصرية فى الدول العربية وبخاصة فى دول الخليج. تحديت كثيرين فى مواقع المسئولية بالحزب وخارجه عندما طلبت نشر قائمة بعناوين موضوعات يبررها استخدام هذه الحجج، وكنت من جانبى مستعدا لتقديم قائمة مقابلة بالمواقع الأجنبية التى تنشر تفصيلات بالغة الدقة عن هذه الموضوعات التى تحجب عن الرأى العام المصرى. كان جل ما نعتقد أنه من الأسرار نجده فى اليوم التالى وربما فى اليوم نفسه منشورا فى موقع إعلامى أو فى دراسة لباحث فى أحد مراكز العصف الفكرى فى الخارج.

 

كتب كثيرون فى داخل مصر كما فى دول أخرى داعين إلى أهمية التزام الحرص الشديد فى التمييز بين حق الجماهير فى إبداء رأيها فى قضية من قضايا الأمن القومى والسياسة الخارجية وبين الزعم بحقها فى صنع القرار. يقضى الواجب بأن تحاط الجماهير علما بموضوعات العلاقات الخارجية باعتبار أنها تؤثر فى مستقبل الشعب والدولة، ولكن هذا الواجب نفسه يقضى بأن تكون عملية صنع السياسة الخارجية هى من مسئولية اجهزة صنع قرار السياسة الخارجية باعتبار أنها عملية متخصصة وتحتاج إلى خبرات خاصة فى التفاوض وتجميع المصالح والضغوط وفى الصياغة وصنع البدائل والسيناريوهات. يجوز طرح قضايا معينة وفى مراحل معينة من عملية صنع القرار للنقاش العام بهدف إثارة اهتمام المواطنين واستخدام هذا الاهتمام خلال التفاوض مع دول أخرى أو بهدف إعداد المواطنين لاستقبال أخبار سيئة كما فى القرارات المتعلقة بتدهور علاقات خارجية مثل فرض الحصار أو الإعداد للحرب.

 

كان صاعقا لنا ما تسرب عمدا أو خطأ عن لقاء الدكتور مرسى مع ممثلين لتيارات سياسية وشعبية لمناقشة سيناريوهات العمل فى أزمة سد النهضة. كان يمكن لو استمر النقاش على النحو الذى جرى عرضه على الجماهير أن تتردى العلاقات مع إثيوبيا إلى اشتباكات مسلحة وعمليات إرهاب متبادلة. وكان مؤذيا للعقل والضمير وسمعة السياسة الخارجية المصرية ومكانة مصر الإقليمية والدولية انعقاد المؤتمر الشعبى الذى ترأسه الدكتور مرسى لمناقشة الأزمة السورية، كان يمكن لو تكرر انعقاده أو خرجت قراراته إلى حيز التنفيذ أن يشعل فى مصر حريقا هائلا وأن يضع الشرق الأوسط جميعه فى بوتقة صهر إرهابية لعشرات السنين، وأظن أن شيئا من كل هذا يحدث الآن.

 

كان أيضا دافعا للقلق رد الفعل للانفتاح المتبادل بين روسيا ومصر. أتصور أن رد الفعل، سواء جاء بتشجيع من مصادر وقوى رسمية أو بحماسة تلقائية من جانب معلقين ومذيعين وإعلاميين، لم يخدم صانع القرار فى كلا البلدين. كان الطرفان يستعدان لمفاوضات تتعلق أساسا بشراء سلاح، فى ختام جولة جاب خلالها الروس دولا فى أمريكا اللاتينية وإفريقيا يسوقون لمنتجاتهم العسكرية بعد أن بلغت المنافسة أشدها فى تجارة السلاح. نعرف الآن أن رد الفعل الشعبى المتبادل فى مصر وروسيا دفع بالمفاوضات، إعلاميا ثم سياسيا، نحو أبعاد لم يكن الطرفان قد استعدا لها بالقدر اللازم.

مثل هذه القضايا يستحق إطلاع الرأى العام عليها ولكن مع ضمان «تحصين» أجهزة صنع السياسة الخارجية وقراراتها ضد تدخلات من جانب من لا يقدرون دقة وحساسيات الوضع الإقليمى وضد من يسعون إلى استغلال حالة التسييس المتفاقمة فى الشارع المصرى لتحقيق أهداف سياسية وعقائدية خاصة أو بحجة الحاجة الماسة إلى انتصارات مبهرة.

 

أرى عند الأفق سحبا كثيفة قادمة فى اتجاهنا معبأة بتحولات جوهرية فى أنماط التفاعلات الدولية والإقليمية. أغلب التطورات تمس مباشرة دور مصر فى ميزان القوى الإقليمية. يبدو، على سبيل المثال، أن أطرافا فى القمة الدولية قررت توظيف النفوذ الإيرانى فى جهود تسوية أزمات عجزت التوازنات السابقة عن تسويتها مثل أزمات سوريا ولبنان واليمن والعراق. يبدو أيضا أن تركيا لم تنتظر سايكس بيكو جديدة فها هى تقوم بنفسها بترتيب قضية مستقبل الأكراد، والتصرف بعنف إن استدعى الأمر، فى حال أصر أكراد سوريا على الانفصال. يبدو كذلك أن روسيا تكاد تقتنع بأن مستقبل سيناء قد يكون أهم لأمنها واستقرار بلاد القوقاز وللحرب ضد الإرهاب من سوريا، أو بعد سوريا. ولا يخفى على مسئول فى المنطقة أن الفرصة سانحة لتتخذ إسرائيل خطوتها الأخيرة نحو إعلان نهاية صراعها مع الفلسطينيين بعد أن أنهت أو كادت تنهى صراعها مع بقية العرب.

 

هذه التطورات المحتملة، وغيرها كثير وخطير، سوف تفرض نفسها خلال الشهور القادمة على حكومات عربية أغلبها مأزوم وعلى شعوب عربية أغلبها «مسيس» للغاية.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي