كالعادة السكون يخيم على شارع الإمام الليث، فالقرافة مكان للعبرة والتأمل. نفهم من حكايات من سبقونا أن الحاضر كثيرا ما يتكلم بلغة الماضى، وأن ما من أحدٍ يستطيع أن يفرض على التاريخ أن يسير كما يهوى.
خطرت على بالى هذه الأفكار وأنا أتجول فى القرافة الصغرى حيث يوجد قبر الإمام الشافعى، وذلك خلال زيارة نظمتها مبادرة «الأثر لنا» وفريقها الرائع بقيادة المهندسة مى الإبراشى، التى تعمل على إشراك المجتمع فى الحفاظ على التراث وترميمه والنظر إليه كمورد ووسيلة للتنمية لا كعبء. وكانت تصحبنا فى هذه الجولة باحثة المصريات والتراث الدكتورة مايسة مصطفى التى قررت أن نبدأ رحلتنا حول «الموت والعالم الآخر» من المتحف القومى للحضارة وأيام المصريين القدماء قبل أن نصل إلى أضرحة ومشاهد العصر الإسلامى بالقرافة وفترة العصور الوسطى. وكانت قبة يحيى الشبيه، أو الشبيهى كما هو دارج على ألسنة المصريين ومكتوب على باب الأثر الفاطمى المُسجل، آخر ما توقفنا عنده. وهى تخضع حاليا لعملية ترميم مدتها 21 شهرا ظهرت كراماتها بالفعل على المكان الذى كان مهجورا ومهدما بسبب المياه الجوفية والإهمال، فى حين تعد هذه القبة المضلعة أكبر القباب الفاطمية ويرجع تاريخها إلى الخليفة الفائز بنصر الله ووزيره الصالح طلائع، كما يشير النص التأسيسى المدون على حلقتها الخارجية. وهذا يعنى أنه تم تشييدها خلال فترة حكمهما التى امتدت نحو ست سنوات، إذ توفى الأول عام 1160 ميلاديا، والثانى بعده بسنة واحدة فى جو من المؤامرات والصراعات السياسية.
يتكون الضريح من غرفة مقببة محاطة بممشى مسقوف يؤدى إلى صالة ذات أعمدة، بعضها كورنثية مما يدل على أنها ترجع لعصور أقدم وأخذت على الأرجح من كنائس عتيقة وأعيد استخدامها فى المبنى، ويحيط بالغرفة ثلاثة إيوانات أو قاعات مستطيلة. والضريح يحتوى على عدة تركيبات لاتزال محتفظة بشواهدها الجنائزية، لأن يحيى الشبيه أو يحى بن القاسم الطيب بن محمد المأمون بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب، ليس مدفونا هنا وحده بل يرقد إلى جواره أخوه ووالدته «أم الذرية» (آمنة بنت موسى الكاظم بن جعفر الصادق، من الزاهدات العابدات المذكورات فى طبقات الأشراف) وبعض الأقارب والمشايخ والأولياء الصالحين مثل العالم الجليل السيد محمد زارع النوى ويحيى بن الحسن الأنور بن زيد الأبلج (أخو السيدة نفيسة) وغيرهما.
• • •
حكاية يحيى الشبيه فى حد ذاتها تحمل العديد من الدلالات السياسية، يرتبط فيها الدين بمصالح الحكم. كان يحيى الشبيه يعيش فى الحجاز خلال القرن التاسع الميلادي. وقد لُقِب بالشبيه لأنه كان يشبه الرسول عليه الصلاة والسلام، وله شامة بين كتفيه تشبه خاتم النبوة، فإذا رآها الناس وهو فى الحمام العام علت أصواتهم بالتكبير والتهليل. ذاع صيته فى العالم الإسلامي، خاصة أنه اشتهر بالعلم والبركة، وسمع بذلك أحمد بن طولون فقرر دعوته إلى مصر لتطييب خاطر أهلها واستمالتهم لمعرفته بمدى تعلقهم بآل البيت.
أرسل إلى يحيى الشبيه وفدا محملا بالهدايا مع رجاء تشريفه وأسرته إلى مصر، وقَبَلَ الأخير الدعوة وخرج الناس لاستقباله فخلت الدور ليلة قدومه، كما تصف كتب المؤرخين. هؤلاء أشاروا أيضا إلى أن أحمد ابن طولون سعى إلى تقريب الصوفيين منه ليكونوا ملاذا آمنا يمنحه الشرعية ويرفع مكانته بين العامة ويسانده فى محاولة الاستقلال عن الخلافة العباسية مع بقاء سلطتها اسمية فقط، وهى مهمة ليست بالهينة أدخلته فى مصادمات مع بعض المشايخ والقضاة، لكنه فى النهاية نجح فيها بالفعل وراح يبنى دولته بسرعة البرق.
الحكايات تتحول بمرور الزمن إلى أساطير تتسع معها العظة، فلازال الناس يرددون أن قبة يحيى الشبيه من الأماكن التى يستجاب فيها الدعاء وأن الشعب المصرى لديه دوما القدرة أن يحفر طاقة فى الجدار ليدخل منها النور.
وهنا نأتى لمرحلة أخرى من قصة القبة موضع الترميم، فحين توفى يحيى الشبيه دفن فى مشهده الحالى بشارع الإمام الليث، لكن القبة تم إنشاؤها بعد حوالى 300 سنة فى عصر الفاطميين الذين اهتموا بأضرحة آل البيت وعملوا على فرض مذهبهم الشيعى، وتحول خطباء المساجد إلى معلقين سياسيين يتحدثون فى أحوال الدنيا.
تآمر الوزير عباس الصنهاجى مع ابنه نصر على قتل الخليفة الظافر بين عامى 1154 و1155 ميلاديا، وولى ابنه الفائز مكانه وكان فى الخامسة من عمره. استغاث الناس بطلائع بن رزيك الغسانى ذى الأصول الأرمينية، الذى كان حاكما لمنية الخصيب بالصعيد (المنيا الآن)، وقد عرف بحكمته وحسن تدبيره. اقترب هذا الأخير برجاله من القاهرة، فهرب الوزير عباس وابنه حاملين ما نهبوا من أموال إلى الشام. وتولى طلائع بن رزيك الوزارة وكان هو الحاكم الفعلى للبلاد لصغر سن الخليفة، وبالتالى نعته الناس بالملك الصالح، وهو من أنشأ آخر مسجد فاطمى فى القاهرة، مسجد الصالح طلائع الذى يقع فى مواجهة باب زويلة، كما شيد قبة يحيى الشبيه وغيرها، قبل أن يتم تدبير مؤامرة لقتله بسبب سيطرته على الحكم وسعيه لنشر المدرسة الإمامية، فقد كان شيعيا لكن على غير مذهب الفاطميين الإسماعيلى.
• • •
تمتزج السياسة بالدين وحياة الناس العادية، فقد أتى يحيى الشبيه إلى مصر لغرض محدد فى نفس بن طولون، وشيدت قبته لغرض محدد فى نفس الصالح طلائع، والنتيجة أن هناك أفرادا يسكنون فى الجوار يحملون لقب «الشبيهى» كما تشير اللافتات على المنازل، وآخرون من نسل السيد يحيى يسمون بالشبيهيين فى المغرب والجزائر والحجاز، وهناك جيران مثل عصام وغيره من شباب المنطقة يساهمون فى ترميم الأثر الذى شكل جزءا من طفولتهم، وذلك من خلال المشروع الجارى تنفيذه بتمويل المجلس الثقافى البريطانى وشراكة عدد من الوزارات.
يسكن عصام فى الحوش الأقرب إلى قبة الشبيه ويحكى عن ذكرياته فى المكان، حيث كان يلعب بالطائرات الورقية مع أصدقائه ولا زال يعتلى «غية» الحمام الزرقاء عند الغروب ملوحا لطيوره بالعودة، فى وقت تتغير فيه معالم القرافة وتتعرض بعض أجزائها للهدم.