نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب سمير حاجّ تناول فيه موقف الشعراء العرب من المدينة، فاختلف شعورهم بين من كرهها ومن عشقها.. نعرض منه ما يلى.
للمكان أهميّة خاصّة فى الإبداع الشعريّ والتشييد الجماليّ فى العالَم التخييليّ، فقد عرّفه الفيلسوف الفرنسيّ جاستون باشلار فى كِتابه الذى تَرجمه إلى العربيّة غالب هلسا تحت عنوان «جماليّات المكان» بأنّه «المكان الأليف.. وذلك هو البيت الذى ولدنا فيه، أى بَيت الطفولة. إنّه المكان الذى مارَسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكّل فيه خيالنا. فالمكانيّة فى الأدب هى الصورة الفتيّة التى تُذكّرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة. ومكانيّة الأدب العظيم تدور حول هذا المِحور».
وللشعراء العرب مَواقف متنوّعة تجاه المدينة، نابعة من رؤى عدّة تِبعا لتجربة الشاعر الشخصيّة فيها وموقفه الأيديولوجى منها. ويُعتبرُ الشّعراءُ أحمد عبدالمعطى حجازى وخليل حاوى ومحمّد الماغوط وأدونيس أصحاب مَوقف صداميّ ورفضيّ من المدينة، فهى فى أشعارهم ديستوبيا (المدينة الفاسدة)، وذاك بتأثيراتٍ مُختلفة منها الموروث الاجتماعيّ والصُّور التى رسمها شعراء وأدباء الغرب.
فى الشعر العربيّ تَحْضُرُ المدينة بصورتَيْن نقيضتَيْن، الصورة الطاغية هى المدينة الفاسدة والصورة الشحيحة هى المدينة الفاضلة. والشاعر العربيّ أتى المدينة قسرا إمّا بَحْثًا عن عمل أو اختارها مَنَفىً إنْ كانَ غَريبا، وهو يعيش فيها صَيْرورَةً وتناقضاتٍ، وتمزّقا وغربةً نفسيّة، وشعورا بالكآبة والضياع والتلاشى. ويَعتبر الشاعر المصرى أحمد عبدالمُعطى حجازى (1935) من أكثر الشعراء العرب صِداما مع المدينة ــ القاهرة، فقد أَفرد لها ديوانا خاصّا «مدينة بلا قلب» (1959)، وَصَفَها فيه بتمازُج الأضواء والجدران: يا وَيْلَهُ مَنْ لم يُصادفْ غيرَ شَمْسِها/ غَيْرَ البناء والسّياج، والبناء والسياج/ غَيْرَ المربّعات، والمثلّثات، والزجاج.
ويُفسِّر حجازى، وهو الريفيّ، مَوقفه العدائيّ من المدينة بأنّه استقاه من تربيته الريفيّة التى لا تتغيّر، وقد تشكّل لديه من تجربة خاصّة حين أتى القاهرة عام 1955 بَحْثا عن عمل، فاشتغلَ مُحرّرا فى مجلّة «صباح الخير»، وقد ضاع فيها روحيّا وعاش الاستلاب والغُرْبة، ورأى فى الريف المصريّ الحضارة الحقيقيّة، وفى القاهرة الحضارة المزيَّفة. هذا ما صرَّح به فى مُقابَلة أجراها معه ماجد السامرّائى، ونُشرت فى مجلّة «الأديب» (عدد2 ــ 1979): «إنّ المدينة الحديثة العربيّة هى حديثة بالنسبة إلى المُواطِن العربيّ العاديّ، الفلّاح والعامل.. وجماهير العرب. وهى مدينة مزيَّفة، وهى مدينة قاهرة.. وهى مؤسَّسة للطغيان، وللاستغلال وللفساد.. وهى مؤسَّسة للأغنياء.. وهى مؤسَّسة لم تنشأ نشأةً طبيعيّة من حاجات أهل البلاد.. إنّما فرضت على أهل البلاد عمارتها».. ويسهب حجازى فى شرْح الصورة النمطيّة للإنسان الريفيّ تجاه المدينة: صورة الفساد والخطيئة والاستغلال والظلم والقهر. ومن الطبيعيّ أن تسمع دائما تلك النصيحة التى تقدّمها الأمّ، أو الأب إلى الابن الذى يذهب ليتعلّم أو ليعمل فى المدينة: «احذَر المدينة.. احذَر نساء المدينة.. احذَر أهل المدينة».
ومَوقفه الرفضيّ من المدينة والنّابع من اغترابه، تجلّى فى قصائد عدّة منها «سلّة ليمون» و«مَقْتل صبيّ» التى يقول فيها: «فالناس فى المدائن الكبرى عدد/ جاء ولد!/ مات ولد!». لكنّ الشاعر فيما بعد تصالَح مع مدينته فى «أُغنية أكتوبر» إذ يقول: «آن الأوان، كَيْ أُغَنّى لك، يا مَدينتي/ يا أجْمَلَ الأوطان/ فى منزل فيك تعلّمْتُ الهوى/ وفى مقاهيكِ، أنا أحاولُ السلوان». وفى قصيدة «أغنية للقاهرة» يحنّ حجازى للقاهرة. يحنّ حجازى إلى مدينته من غُربته المكانيّة، فيقول: «أنا العاشقُ المُقيمُ!/ مُغَنّيكِ/ حملت الاسم العظيم/ ولم أرحل سوى فيك/ فهل آنَ أنْ نفيءَ لظلّ».
هذه الصورة للمدينة الفاسدة تبرز عند خليل حاوى (1919 ــ 1982) فى «ليالى بيروت» حَيْثُ تتجلّى الصورة السَوْداويّة الرافضة للمدينة، فيُشَبّهها بالجحيم والتيه ومأوى الحيارى، ويختزلها بخمرٍ ومَواخير وجريمة: «إنَّ فى بيروتَ دنيا غيرَ دنيا/ الكَدحِ والمَوتِ الرتيبْ/ إنّ فيها حانةً مسحورةً/ خمرا، سريرا مِن طيوبْ/ للحيارى/ فى متاهات الصحارَى/ فى الدهاليزِ اللعينَهْ/ ومواخيرِ المدينَهْ/ (...)/ مَن يقوِّينا على حملِ الصليبْ/ كيف نَنجُو مِن غِواياتِ الذنوبْ/ والجَريمَهْ؟. وعند محمّد الماغوط فى «مقهى بيروت» تتكَرَر هذه الصورة، إذ تتمظهر المدينة الرّافضة للمَنفيّين الآتين إليها، فيعيش الشّاعرُ، وهو الزائر الغريب فيها، الاغترابَ واللّا انتماء، ويقضى وقته فى التسكُّع بين شارعٍ وَرَصيفٍ: «لا شيء يربطنى بهذه الأرض سوى الحذاء/ لا شيء يربطنى بهذه المروج/ سوى النسيم الذى تنشقّته «صدفة» فيما مضى/ ولكن مَن يلمس زهرة فيها يلمس قلبى».
بينما عند صلاح عبدالصبور فى «أغنية للقاهرة» تتراءى صورة جميلة للمدينة، حيث تبقى القاهرة مدينته الأثيرة، على الرّغم من اغترابه فيها ونُكرانها لَهُ، فيقول: «أهواك يا مدينتى الهوى الذى يُشْرقُ بالبكاء/ إذا ارتوت برؤية المحبوب عَيناه/ أهواكِ يا مَدينتى الهوى الذى يُسامح/ لأنّ صوته الحبيس لا يقول غير كلمتَين/ إذا أرادَ أن يَصْرُخَ/ أهواكِ رُغْمَ أنّنى أُنكرتُ فى رحابك/ وأنّ طيرى الأليف طارَ عنّي/ وأنّنى أعودُ، لا مَأوى، ولا مُلْتَجَأ/ أعودُ كَيْ أشْرُدَ فى أبوابك/ أعودُ كَيْ أشرَبَ من عَذابِكِ».
وفى قصيدة عبدالوهّاب البيّاتى «بغداد يا مدينة النجوم» تتمَظْهَرُ بغدادُ بصور مُختلفة، حينا ترتسم بشكلٍ رومانسيّ بهيّة مُشتَهاةً، مُزَركشةً بالنجوم والشمس والأطفال والكروم رُغم الهموم: «بغداد يا مدينة النجوم/ والشمس والأطفال والكروم/ والخوف والهموم». ثُمَّ معشوقة وطفلة سَرْمَدِيّة: «بغدادُ فى حبّك أهلُ الهوى/ ماتوا؟ وَاَنْتِ الطفلةُ الباقية»، وأحْيانا أخرى ترتسم بشكلٍ واقعيٍّ رَمْزا للفقر والخَناجر والدخان كما فى «الليل والمدينة والسّل»: لم تَزَل كالهرّة السوداء/ أعماقُ المدينة/ ترضعُ الأحياءَ من ثدى الأمومة، وكذلك رَمْزا للسّلطة والقمع والموت: «وعندما تعرّت المدينة/ رأيْتُ فى عُيونها الحزينة/ مباذلَ الساسة واللّصوصَ والبيادق/ رأيْتُ فى عُيونها المشانق/ تنصب والسجون والمَحارق/ والحزن والضياع والدخان».
النص الأصلي