لا بد أن هناك خللا كبيرا فى الممارسة السياسية عبر العالم يفسر ما أصاب هذا الحقل مؤخرا من تناقضات، ومغامرات، وخلط مريع للأوراق، وولادة أحداث وقرارات تهدد العالم كله بإمكانيات الدمار والفناء. وما عادت هناك جهة أو تجربة واحدة يستطيع الإنسان الإشارة إليها أو الإشادة بها ليتعلم منها شباب وشابات أمة العرب.
فالنظام الديموقراطى الذى كان يعول عليه كصمام أمان لضبط تجاوزات المؤسسات الاقتصادية ولحماية المؤسسات الاجتماعية وإيجاد توازن ومعقولية فى ممارسات الحرية الفردية والعامة وفى بناء علاقات مجتمعية تحكمها موازين العدالة والمساواة فى المواطنة واحترام القوانين، هذا النظام ينخره الفساد المالى والذممى والأخلاقى، ويقف عاجزا أمام قوى الاستخبارات وما تفرضه الدولة العميقة، وما يهذى به هذا القائد النرجسى الشعبوى المجنون أو ذاك، وتدخله فى اليأس والقنوط تقلبات أمزجة الناخبين من الجنسين وضحالة ثقافتهم السياسية وعدم دفاعهم عن أسس المنافسة السياسية الشريفة.
والنظام الاقتصادى والمالى لا يخرج من أزمة حتى يدخل فى أزمة أخرى. ومع أن كل الدلائل تشير إلى أن هذا النظام قد أصبح يرسخ الظلم، ويقود إلى مزيد من الفقر، بينما يزيد غنى أقلية صغيرة متخمة، ويتطور شيئا فشيئا نحو الدخول فى مغامرات تكنولوجية مجنونة وكوارث بيئية كبرى، إلا أن المؤمنين به على استعداد أن يشعلوا الحروب والاضطرابات السياسية والأمنية فى كل مكان وذلك من أجل الإبقاء على هذا النظام طيعا وخادما لقوى استعمارية مهيمنة نهمة وأنانية إلى أبعد الحدود.
وما كان ذلك كله ليكفينا، إذ نحن الآن أمام نظام إعلامى وتواصل اجتماعى يسرع الخطى نحو التمرد على غاياته الإنسانية القديمة الكبرى فى تقريب البشر وتسهيل تفاهمهم وتعارفهم، ليحل مكان ذلك تسخير الحقل برمته فى خدمة السياسة والاقتصاد الفاسدين المليئين بكل الخطايا التى ذكرنا بدلا من فضحهما وتصحيح مساوئهما. وفى هذه اللحظة لا يعرف أحد إلى أية كوارث سيقود هذا الحقل بعد أن أصبح كالعادة، وبالنسبة المماثلة لكل الحقول والأنظمة الأخرى، أداة طيعة فى يد أقلية تستعمله لجنى الثروة وبناء الوجاهة السياسية لها.
وهكذا فعندما يرى المشاهد ما يجرى من جنون وعبث ومغامرات فى أوكرانيا، وما تجرى من مماحكات تجارية وتكنولوجية بين أمريكا ومنافسيها، وما يعرض يوميا من تمثيليات، يعرف القاصى والدانى أنها كاذبة وملفقة وصادرة عن مخابرات حاكمة مهيمنة، بشأن شيطنة هذه الشخصية أو تلك، كما هو الحال مع تعامل الغرب المضحك مع الرئيس الروسى بوتين، وما أصبح مبدأً سياسيا مقبولا من التعامل بألف وجه مع نفس المشكلة أو الحادثة، كما نراه من تعامل الغرب مع مآسى الشعب الفلسطينى فى فلسطين المحتلة مقارنة بتعامله مع مآسى شعب أوكرانيا، عندما يرى الإنسان كل ذلك، وهو جزء صغير من محيط كبير متلاطم، يدرك الإنسان مقدار الصعوبة فى عملية التثقيف السياسى فى بلاد العرب، بل فى العالم كله.
فالتعليم الذى لا يستند إلى أمثولة فى الواقع وإلى تجارب شريفة إنسانية يشار إليها يصبح تعليما نظريا يفقد بريقه وصدقيته بسبب تعارضه مع الواقع وعيشه فى الخيال.
ومع ذلك يحتاج شباب وشابات الأمة أن يُنبهوا إلى جانب مفصلى جدير لا ينسى قط، وهو أن لا يتعاملوا مع، ولا يقتربوا من، ولا يثقوا فى أية شخصية سياسية، سواء فى داخل أوساطهم أو خارجها، تتصف بالصفات النرجسية. هذا المرض النفسى إن أصاب شخصا مهما وقائدا فى أى عمل سياسى لن يؤدى إلا إلى مصائب وكوارث.
وإذا كان يجب أن يشار إلى شخصية تجسد تلك العاهة النفسية وتحتاج إلى أن يتعلموا من إشكاليات نرجسيتها فإننا ننصح بقراءة ما كتبه عشرات من علماء النفس الأمريكيين حول شخصية الرئيس الأمريكى السابق، دونالد ترامب. من الضرورى أن يتعرفوا على ذلك من أجل أن يتعرفوا على إمكانيات إشكالياتها فى حقل السياسة عبر كل بلاد العرب، وحتى يعملوا فى النضال السياسى بعيدا عن أجواء وملابسات النرجسية، وهذا موضوع يستحق أن نناقشه أكثر.