أعادت الحرب على قطاع غزة الحديث فى العالم العربى مجددا عن قضية الاحتلال والاستيطان الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية والعربية المحتلة، ومعها طفت على السطح مجموعة من المغالطات التى أصبح يتزعمها تيار فكرى متصهين بين العرب يردد الكثير من العبارات غير المنضبطة من ناحية القانون الدولى على أنها حقائق! وفى ظل عقد ملىء بالتغيرات الإقليمية الحادة منذ الثورات العربية (2010ــ حتى الآن) فقد أدى تراجع الاهتمام نسبيا بالقضية الفلسطينية لصالح قضايا قومية وإقليمية أخرى، إلى تزايد مغالطات هذا الفكر العربى المتصهين والذى أصبح يضم قطاعات غير قليلة من التيارات الشبابية الفكرية التى تنتشر بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعى وقد كشف عن قبحها العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة وباقى الأراضى المحتلة مؤخرا.
واحدة من ضمن عدة مغالطات عربية متصهينة ترددت فى هذا السياق هى رفض المقاومة الفلسطينية وتجريمها تحت دعوى الاعتداء على الإسرائيليات والإسرائيليين السلميين! بل وقد زاد بعضهم بطرح سؤال استنكارى وهو لماذا يطالب العرب بزوال الاحتلال الإسرائيلى ولا يطالبون ــ مثلا ــ بزوال الاحتلال العربى الإسلامى الذى قدم من شبه الجزيرة العربية ليحتل مصر وشمال أفريقيا؟! وهكذا طرح أحدهم فكرة شيطانية تقول بأنه إذا كان من حق الشعب الفلسطينى مقاومة الاحتلال الإسرائيلى، فإنه سيكون من حق البربر والأمازيغ والأقباط وغيرهم المطالبة برحيل الاحتلال العربى الإسلامى عن مصر وشمال أفريقيا!
وعلى الرغم من السذاجة المفرطة لهذا الطرح المتصهين، لأننا لو قمنا بمد خط هذا الطرح المعتل على استقامته لطالبنا بزوال الاحتلال البريطانى عن السكان الأصليين لأستراليا ونيوزيلندا وباقى جزر المحيطات الثلاث (الأطلسى والهندى والهادى) ولطالبنا أيضا بزوال الاحتلال الإسبانى عن الهنود الحمر فى أمريكا الشمالية وعن السكان الأصليين لدول أمريكا الوسطى واللاتينية.. إلخ أقول على الرغم من سذاجة الطرح وبعيدا عن ترهات جدل المصطلحات «الفتح»، «الاحتلال»، «الغزو»، «الاستيطان».. إلخ. فإن بعض الإيضاح لقواعد القانون الدولى وتطورها التاريخى قد يكون مفيدا للرد على مثل هذه المقولات لإزالة اللبس عند بعض من يتلقفها ويصدقها بحسن نية!
***
طلاب مقررات دراسات الهجرة واللاجئين يعرفون جيدا أن تاريخ الكرة الأرضية هو تاريخ من الحركة الدائمة للبشر. الدراسات العلمية تثبت هذه الحقيقة، تحليلات الحمض النووى حتى لأكثر شعوب العالم استقرارا وانعزالا عبر التاريخ تثبت فى الأخير أن فكرة «الموطن الأصلى» هى فكرة نسبية، فالأصل فى الحياة وفى التركيب الجينى للبشر هو الاختلاط. حركة البشر عبر التاريخ كانت دائما من أجل البحث عن حياة أفضل والوصول إلى موارد أغنى، كانت هذه الحركة تتم غالبا عبر مجموعات بشرية (قبائل وعشائر) ولاحقا أصبحت هذه الحركة البشرية تقودها سلطة سياسية، لكن لم يكن هناك أبدا تنظيم دولى قانونى شامل لمثل هذه الحركة قبل القرن العشرين!
بعبارة أخرى، فعلى الرغم من أن عمر البشر فوق الكرة الأرضية يبلغ ملايين السنين، إلا أن وجود تنظيم دولى يستند على أسس قانونية دولية مكتوبة لم يحدث إلا فى المائة سنة الأخيرة فقط! الغزو والتوسع كانا دائما من أدوات السيطرة السياسية للإمبراطوريات، هكذا قامت الإمبراطورية الرومانية على التوسعات والغزو حتى تجاوزت سلطتها القارة الأوروبية وبلغت غرب آسيا وشمال أفريقيا. وعلى الرغم من القوة الهائلة لهذه الإمبراطورية إلا أنها تعرضت للانقسام لاحقا فظهرت من ثناياها إمبراطورية أخرى لا تقل قوة عنها وهى الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية)، وعلى الرغم من أن الإمبراطوريتين قد اعتنقتا المسيحية لاحقا فإن الأخيرة لم توحدهما رغم بعض المحاولات، ولكن شكلت المسيحية فى مرحلة لاحقة أساسا لبعض القواعد الدولية (فى حقيقة الأمر كانت قواعد إقليمية) لتنظيم الحروب وتعيين الحدود والتعويضات عن الغزو، ورغم ذلك ظلت هذه القواعد قاصرة على المسيحيين فقط فلم تنسحب على غيرهم كالإمبراطورية العثمانية مثلا، وهكذا فعلى الرغم من أن عملية تبادل السفراء وتعيين الحدود ووضع قواعد الحرب فى تلك الفترة كانت يطلق عليها «قواعد دولية» فإنها كانت فى معظم الأحيان قاصرة على القارة الأوروبية وتخومها فقط!
وبينما أخذت الإمبراطورية البيزنطية فى التوسع، فقد دخلت أوروبا عهد الإقطاع حيث أخذت الإمبراطورية الرومانية فى الانقسام إلى عدة سلطات سياسية إقطاعية تداخلت فيها السلطة الدينية مع السياسية والاقتصادية! وعندما أصبحت الخلافة الإسلامية لاعبا دوليا حتى أن العثمانيين قد هزموا الإمبراطورية البيزنطية وسيطروا على عاصمتها القسطنطينية (إسطنبول لاحقا)، فقد شجع هذا على توسعة بعض قواعد القانون الدولى العلمانى (غير المستند إلى المسيحية) وذلك من أجل عقد بعض المعاهدات والاتفاقيات بين العثمانيين وبعض السلطات السياسية فى وسط وغرب أوروبا، إلا أن هذه القواعد الدولية كانت مجرد اتفاقيات هشة تخضع لسيطرة الأقوى وفى النهاية لم تصل أبدا إلى حد التنظيم أو القانون الدولى!
ورغم أن حركة الإصلاح البروتستانتية قد أنهت آمال السلطات السياسية فى أوروبا فى تشكيل قوة موحدة على غرار الإمبراطورية الرومانية، وعلى الرغم من أن الحروب الدينية فى أوروبا فى القرن السابع عشر قد انتهت بعقد صلح ويستفاليا الذى يمثل بداية الدول القومية الحديثة بديلا عن الإقطاعيات والإمبراطوريات، فإن ذلك أيضا لم يساعد أبدا فى وضع قواعد قانونية دولية، فظلت الغلبة للأقوى سواء داخل القارة الأوروبية أو بين الأوروبيين والعثمانيين أو بين العثمانيين والفرس وشعوب آسيا الوسطى.. إلخ.
***
ظل مبدأ الغلبة للأقوى هو المسيطر فى العلاقات الدولية إلى أن وقفت بعض الدول الأوروبية أمام توسعات نابليون بونابرت مع مطلع القرن التاسع عشر مشكلين ما يعرف بـ«الوفاق الأوروبى» فى فيينا عام 1815 وهو ما شكّل أول تنظيم قانونى حديث لفكرة «الأمن الجماعى» القائم على اتفاق القوى الأوروبية على الوقوف فى وجه أى سلطة أوروبية تقوم بمهاجمة حدود أى دولة أوروبية أخرى وذلك لإقرار السلم والاستقرار فى القارة! وعلى الرغم من أن هذا الوفاق قدم النسخة الأولى من الشكل الحديث للتنظيم الدولى حيث سياسة المؤتمرات الأوروبية لمراجعة اتفاق الأمن الجماعى (يعرف أيضا باسم نظام فيينا) فإنه من ناحية كان قاصرا على أوروبا، ومن ناحية ثانية لم يصل إلى قواعد قانونية مكتوبة تتمتع بصفة الإلزام، مما عجل بانهياره فى منتصف القرن التاسع عشر!
بل وقد قامت القوى الأوروبية بتوسعة أنشطتها الاستعمارية وظلت مقاومة المحتل فعلا فرديا فى معظم الأحيان غير مستند إلى أى قاعدة دولية تجرم الاستعمار أو تعطى حق تقرير المصير للشعوب التى تعرضت للاحتلال! ولم يطرأ جديد فى تنظيم قواعد قانونية دولية فى هذا الصدد حتى جاء إعلان ويلسون الشهير بعد الحرب العالمية الأولى، ليتم اعتباره أول حديث عن حق تقرير المصير كقاعدة دولية تم ترجمتها أخيرا فى إنشاء عصبة الأمم (1920ــ نهاية الحرب العالمية الثانية) وهى أول منظمة دولية تضع مبادئ مكتوبة لقواعد القانون الدولى الخاص بإقرار حق تقرير المصير!
ولكن لأن تلك العصبة حتى فى أكثر فتراتها استقرارا لم تتجاوز الـ 60 عضوا ولم تتمتع بأى قوى إلزامية لتنفيذ قراراتها، فلم تمنع قيام الحرب العالمية الثانية حتى كان أخيرا ولادة «الأمم المتحدة» وهى المنظمة الدولية التى وضعت قواعد إلزامية لتنفيذ قرارات مجلسها الأقوى (مجلس الأمن)، وكان هذا هو التنظيم القانونى الدولى الفعلى الذى جرّم الاستعمار فى شكله التقليدى وأقر حق تقرير المصير للشعوب التى تعرضت للاحتلال!
ومن هنا فمصر وشمال أفريقيا بهذا المعنى القانونى ليسوا دولا محتلة، الولايات المتحدة ليست محتلة، نيوزيلندا وأستراليا وأمريكا اللاتينية لم تعد مستعمرات! الحقيقة أنه وفقا لقواعد القانون الدولى فالأراضى الفلسطينية هى أراضٍ محتلة وهضبة الجولان محتلة، والمستعمرات الإسرائيلية المبنية على الأراضى التى تم احتلالها فى 1967 وما بعدها هى أراض محتلة، والقدس ليست عاصمة لإسرائيل! هذه ليست أمنيات أو شعارات، هذا ما يقره القانون الدولى وفقا لقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة فى 1947 والذى سبق الإعلان الرسمى عن قيام إسرائيل بنحو ستة أشهر! وبناء عليه، فمقاومة المحتل فعل مشروع دولى قد نختلف فى التكتيكات أو الأدوات أو التوقيتات والأولويات، لكن تبقى فلسطين محتلة وتحريرها هو واجب دولى قبل أن يكون واجبا عربيا أو إسلاميا! حسنا فعلت مصر الرسمية بالتدخل لوقف إطلاق النار، وبالمبادرة لإعادة إعمار غزة، فالقضية الفلسطينية لمصر هى قضية أمن قومى، وما لم يحصل الشعب الفلسطينى على دولته الحرة المستقلة ستظل منطقة الشرق الأوسط غير مستقرة، وستظل قواعد القانون الدولى مختلة.
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر